دلشاد بهاء الدين المسكون بهاجس الإبداع والمحكوم بقلق البحث

  • 11/12/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

دلشاد بهاء الدين ( 1974- السليمانية ) من الأسماء المهمة لا في مدينة السليمانية فحسب بل في عموم كردستان، إلتقيته أكثر من مرة في سيمبوزيوم السليمانية الثالث ( 03-10-09-2021 ) ، إن كانت في مكان العمل والورشة حيث كان المشاركون والضيوف الفنانون يتواجدون كخلية نحل، أو في تلك الزيارة الجماعية التي قمنا بها إلى غاليري زاموا حيث يشغل مديراً له.  زاموا الذي يعتبر من البيوت القديمة في السليمانية، والذي بني منذ تأسيس مدينة السليمانية، أي إلى أكثر من ( 130 ) عاماً، ويعود ملكيته إلى الكاتب الكردي إبراهيم أحمد والد السيدة هيرو إبراهيم عقيلة الرئيس العراقي الراحل مام جلال، من البيوت التي تحمل من العمارة القديمة الكثير (نوافذها، أبوابها، حجارتها، شرفتها، صحنها ... إلخ ) كل ما فيها تعود بك عقوداً إلى الوراء متماهية مع رؤية القدامى للعالم وللإنسان ولنمطية سكنه، كل ما فيها تحرك الروح فيك وكأنك في محراب مقدس.  فهذا الحرص على تحويل هذا المكان الجميل إلى غاليري وحده كافياً على أهميته في مسار تحولات الثقافة بأغصانها المثمرة جميعها والتفنن في سموه لإستنهاض المتلقي للإقتراب منها على نحو أكثر، وكان يشغل فضاءاته، أقصد فضاءات زاموا أعماله الموغلة بعيداً على درب البحث عن آفاق جديدة، وهذا ما جعلني أقترب من أعماله تلك أكثر، وكأنها تطرح لي نبوءتها الجديدة دون أن يرتد عنها ما هو مسكون بهاجس الإبداع والمحكوم بقلق البحث، فهو يعزز العمل دون أدنى مبالغة للإلتقاء بين التباينات الكثيرة من جهة، وبين المنحنيات المولوية، العشقية، بين الصلاة والصوفية من جهة ثانية، ويعزز الكشف بوصفه السبيل إلى أصل التجلي، وإنفتاح على إحالات مفترضة.  فهو مسكون بالإختلاف ولهذا يكشف النقاب عن روحه وهي تتموضع داخل مساحاته البيضاء، فنيران الرؤية تسبقه للتعرف على الجذور والإمساك بها، فاللاحقيقة تتحول إلى حقيقة، واللاحضور إلى حضور وكأنه يريد أن يثبت مقولة جاك دريدا بذلك، فالأحداث عنده مأزومة من الداخل على الأقل فلا بد من الخروج درامياً ليحدد ذاته، و هذا نوع من كمون الذات نفسه الذي لا بد من التدفق خارجاً، هي مشاعره بإنطباعات لونية فتكون أكثر رهافة وهي تمتزج بفرشاته و التي لا بد لها أن تلاقي طريقها إلى جمهورية البياض .  دلشاد بهاءالدين يشحن عمله بدلالات جديدة لها بعدها الرمزي إلى جانب بعدها الجمالي مكرساً معظم طاقته لإستكشاف عالم بصري يعرف تماماً أشياءها وموضوعاتها، فهو يتوجه بعينيه نحو مصدر الضوء وإلى تلك المناطق الأكثر تضاداً بينها أقصد بين الضوء والعتمة، وهذه إحدى العمليات التي تجعل ردود أفعاله لا إرادية، من جانبه على الأقل، وبها يكتسب مرونة حين ينطر ويقترب إلى / من أنماط بصرية مختلفة لها تفضيلاتها المتسقة، وهذه إمكانية يمتاز بها وتدفعه نحو إمتلاك جذور البناء الأساسية إن كان في الإدراك عامة أو في الإدراك الفني خاصة، ما يجعله في حالة من التأمل الدائم لا ليعيد الثقة التي قد تتدحرج أحياناً في تحديدات الوجود، بل لينزعها أقصد الثقة ويغرسها في عمقه وهذا شكل من أشكال إستعادة الوجود بوصفها لحظات مؤقتة وضرورية في الوقت نفسه، بوصفها مجازات متوالدة عن أزمان غير عاجزة عن إفراغ نبضاتها، عن إعطاء الضمان للمشهد الذي حظي بالقيم العليا التي تتحدث عن عبقها تزامنياً مع ما يرسم ومع ما يحدث دائماً على السطوح من تفاهمات تكسر كل من البعد الزماني والبعد المكاني بين المتلقي وما يشاهده ويسمعه من تلك التفاهمات على تلك السطوح.  فبهاءالدين وفي محاولاته لفهم العالم يبدأ بإعجابه بكل ما يمجد حياة الإنسان و بالدوائر التي يعوم فيها، وما الأقواس والحركات المائلة لخطوطه إلا ترددات لرؤيته تلك، ملخصاً بها فلسفته حول سؤال الفن، فهو عميق في روحه إلى حد الرعب، و لا ينسى أن يذهب نحو تأسيس رابطة لونية بين تكويناته المختلفة محققاً ذاته فيها، مستدعياً إنتقاءاته ليقصي بها نحو إرتقاء قواعدها التي تمنحه إمتيازاً خاصاً، والتي ستقوده بعلاقاتها والتي ستستوعبه وتستوعب إنفعالاته إلى فعل التنقل في الفضاء، إلى خلق حالة تواصلية تربط المرئي بالمتواري، والمحتمل بالمتحقق، فالأشياء الحافلة بالصور والموضوعة ضمن إختياراته لا بد أن تقبل ما يأسرها و ما يجعله يحرر العين من قيود الموضوع والتأطير.  فالمهمة المؤولة له محكومة بحركات قادرة أن ترسي دعائم سياقاته الخاصة، ويمكن النظر إليها بإعتبارها أفقاً نهائياً داخل مسار تأويلي يمكن الوصول إليه في نهاية الأمر كنقطة إرساء دلالية، ويعد هذا الأفق شكلاً نهائياً عليه ستستقر السيرورة التأويلية، ويمكن القول أن الأشكال التعبيرية المختلفة التي يفرضها نمط بنائه ما هي إلا إنبثاقات جمالية تتقفى أثر تلك السيرورة التي أُنتجت وفق دلالات معينة، وبفضل ترتيب الإشعاعات الضوئية ومنابعها، بفضل حركتها و سرعتها و إتجاهها، فهو يرسم الفضاء ذاته المليء بأنماط قيمية هي في طور التوتر بين حالتي الإنبعاث والتلقي.  وهذا يعني الإقرار بأن المساحة التي يرتادها بهاءالدين تشهد أسلوبه المستقل المبني على كشف مفرداته فيها، تلك المفردات التي تسمح له بمنح الضوء طاقة غير عادية طالما كان هدفه القبض على العوامل المبعدة بكل تجلياتها.  ويمكن القول أيضاً بأن دلشاد بهاء الدين شغوف بالإقامة وسط الفراغات الغائبة بين ألوانه وتدرجاتها، شغوف بالمضي بمشهده بعد أن يشعل فيه نمنماته ونقوشه كنوع من رومانسية المكان وتاريخيته، بل كنوع من التقسيمات التي يقع قبلها ما هو مطموس ومغلق فيعلن عنها داخل عائلة فلسفته وبين سطورها هائماً في المكوث خارج الإختلاف وداخله، مظهراً نفسه حاضراً في الوجود، ملزماً بربط التاريخ نفسه بحلمه في أدق تفاصيله، شغوف بتجاوز مفهوم العمل المغلق إلى المنفتح على تأويلات لا نهاية لها، كل ما فيه يمنح مفاتيحه لمتلقيه بوصفه محفز لنفخ الروح فيه . والخلاصة أن مشاهد دلشاد بهاء الدين لا تفقد ذاتها، بل تعيد اكتشافها مرة بعد أخرى، إن كانت من خلال التمثل لتخيلاته التي يعمل عليها على نحو متزامن مع تعزيز وتدعيم (الأنا) ووجودها، أو كانت من خلال إستثارة الإنتباه وتولد التوقعات التي يسعى من خلالها إلى إشباعات جديدة دون أن تقع في قبضة الغموض أو ما يفقدها من مستوياتها الدلالية أو التركيبية .

مشاركة :