أواصل الحديث عن مساهمة المرأة المسلمة عبر العصور الإسلامية في وضع أسس الحضارة الإسلامية والنهضة العلمية في مختلف المجالات العلمية، وهو الجانب المُعتّم عليه من قِبل بعض المؤرخين والمحدِّثين والفقهاء عامة، والمعاصرين خاصة، بل امتد هذا التعتيم إلى مناهجنا الدراسية التي صوَّر بعضها المرأة بصورة الإنسانة الضعيفة معوجّة السلوك والخُلق!، وتم إقصاؤها عن المشاركة في الحياة العامة وحصرها في نطاق البيت وخدمة من هم فيه.فمن إسهامات المرأة المسلمة العلمية:• هاجر بنت محمد درّست المفسر الكبير جلال الدين السيوطي رسالة الإمام الشافعي.• وشهدة بنت الأبرة العالمة الكبيرة في الحديث التي درّست علماء كباراً كابن الجوزية وابن قدامة المقدسي.• أم حبيبة الأصفهانية التي يذكر المنذري أنّ هذه العالمة أجازته.• مريم الجيلية الإسطرلبية عالمة بعلوم الفضاء (944- 967م)، عاشت في مدينة حلب شمالي سوريا، كان أبوها عالماً في مجال الفضاء فتتلمذت على يديه، وعملت في مجال العلوم الفضائية في بلاط سيف الدولة، ولبراعتها ودقتها قام الحكام بتكليفها عدة مرات لصناعة اسطرلابات لهم وقامت أثناء هذه الفترة بتحسين آلة الإسطرلاب التي تعرف أيضاً باسم ”ذات الصفائح . توفيت عن عمر 23 سنة فقط.• لبنى القرطبية عالمة رياضيات ومُدّوِّنة الخليفة ومن بعده مُدوِّنة ابنه الحكم الثاني ابن عبد الرحمن. وقد عينها مدبِّرة أمور المكتبة الملكية (وكانت المكتبة في ذلك الوقت تضم أعداداً هائلة من الكتب فوق الـ500 ألف ومن أهم المكتبات في العالم آنذاك).كان المُدوِّنون في ذاك الوقت عملهم الرئيسي تدوين الكتب وترجمتها، ولكن لُبنى كانت من العلماء الذين لم يكتفوا بالتدوين بل كانوا يضيفون أفكارهم وحلولهم للمعادلات الرياضية ويُعدِّلون الأخطاء التي يجدونها في الكتب، وكانت تجد حلولًا لأصعب العمليات الرياضية. وقد اشتهرت أيضًا بخطها الجميل، وقيل إنّ لُبنى من حبها الشديد للرياضيات: كانت عندما تمشي في طرق الأندلس تعلِّم الأطفال مبادئ الرياضيات وجداول الضرب، وقد كتب عنها العالم والمؤرخ ابن بشكفل «أتقنت الكتابة وعلوم النحو والشعر، وكانعلمها في الرياضيات واسعاً وعظيماً وأتقنت علوماً أخرى»، توفيت عام 984م.وهكذا نجد قد أنه قد نبغ في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي الآلاف من العالمات المبرزات والمتفوقات في أنواع العلوم وفروع المعرفة وحقول الثقافة العربية الإسلامية، وقد ترجم العسقلاني في كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة»، لـ(1543) امرأة، منهن الفقيهات والمحدّثات والأديبات. وذكر كل من الإمام النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات»، والخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»، والسخاوي في كتابه «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، وعمر رضا كحالة في «معجم أعلام النساء»، وغيرهم ممن صنف كتب الطبقات والتراجم، تراجم مستفيضة لنساء عالمات في الحديث والفقه والتفسير وأديبات وشاعرات.ولقد تفوقت المرأة المسلمة على الرجل في جوانب كثيرة في علوم الحضارة الإسلامية، وخاصة في علم الحديث ومعرفة رواته، ويسجل تلك الشهادة أئمة علم الحديث والمصطلح، فيقول الإمام الذهبي: «وما علمت في النساء من اتُّهمت ولا من تركوها». ويؤكد هذا الحكم على تزكية النساء في علم الحديث الحافظ ابن حجر رحمه الله حيث يقول: «لا أعلم في النساء من اتُّهمت ولا تُركت.»وكان حرص النساء على طلب العلم الشرعي والاهتمام به منذ عهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقد روى أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة رضي الله عنهما أنّ النساء قلن لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اجعل لنا يومًا كما جعلته للرجال قال: فجاء إلى النساء فوعظهن وعلَّمهن».وقد كان عطاء بن رباح رحمه الله يقول عن السيدة عائشة رضي الله عنها: «كانت أفقه وأعلم الناس وأحسنهم رأيًا»، وكذلك أمهات المؤمنين -رضوان الله عليهن- جميعًا، وأغلب نساء الصحابة أيضًا. فتلك الأعداد الهائلة من النساء اللواتي ساهمن في الحركة العلمية في الحضارة الإسلامية يُصنّف لها عشرات الكتب، ولكن للأسف الشديد تجاهل العديد من الفقهاء والمؤرخين والمحدِّثين هذا التاريخ المشرق للمرأة المسلمة عبر العصور، وعتّموا عليه، وأعطوا تلك الصورة التي تقلل من شأنها وتصوِّرها بالضعيفة كثيرة الأخطاء وعلى الرجل تقويمها، وأنّها ناقصة الأهلية، وأنّ النساء أكثر حطب جهنّم. وقد استدلوا بأحاديث ضعيفة وموضوعة تُعزِّز تلك الصورة المُشوّهة عنها، ونقَل عنهم تلك الصورة معدو مناهجنا. فإلى متى ستظل صورة المرأة مُشوّهة في مناهجنا الدراسية؟!، سؤال أوجِّهه إلى معالي وزير التعليم.
مشاركة :