التوهج والإنطفاء

  • 11/18/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

« نسخ باهتة» هي آخر اصدارات الكاتبة السعودية/ بشاير محمد، الصادرة حديثا هذا العام. وتطرح هذه الرواية ( الاجتماعية) التي تدور أحداثها في البيئة ( الاحسائية) قصة إحدى العائلات من أهل المنطقة على مدى ثلاثة أجيال متعاقبة، هم الآباء والأبناء والأحفاد، وما يطرأ على أفرادها من تغيرات اجتماعية وثقافية وحضارية مع مرور الزمن، والآثار الناتجة عن هذه التغيرات نفسيا وماديا ومعنويا وانعكاساتها على حياتهم وأساليب معيشتهم، والتي غالبا ما يكون الزمن والظروف المحيطة وتطور الحياة المدنية للمجتمعات هي المتحكم الرئيس في توجيه دفة الحدث على المستويين الفردي والجماعي نحو عوالم أو مصائر مشتركة، لا تشجع على عزلة الفرد داخل المجتمع، وجعله يعيش بمنأى عنه، بل لا بد له أن يتصالح معه، ويحاول دائمًا أن يكون عضوا فاعلا فيه! له ما له، وعليه ما عليه. ولذلك كان من الواضح في هذه الرواية ان كاتبتها قد جعلت من الزمن حكما أو ( قاضيا) وكلت إليه حل تفاصيل قصة شخصياتها المعقدة مع الحياة على مدى أجيال استمرت عقودا طويلة، حيث كان كفيلا - بأمر الله تعالى- بأن يذيب الخلافات والنزاعات المتوالية لسنين طويلة بين أفراد أسرة المرأة، المدعوة « ميساء» وهي بطلة القصة والشخصية الرئيسة فيها وبين المحيط الاجتماعي الذي يتقاسمون أرضيته مع غيرهم من الناس في المجتمع ذاته! إذن» ميساء « تلك المرأة البائسة، التي كانت تعاني قسوة والديها ومعاملتهما الجافة لها منذ طفولتها - هي وأخواتها - حتى كبرت وتزوجت وأنجبت وأصبحت جدة أيضا مع مرور الوقت، تلبستها هذه الحالة فيما بعد وكأنها انعكست على شخصيتها وسلوكها وتصرفاتها عبر مراحل حياتها المختلفة ، فصارت امرأة حادة المزاج مع أولادها، وشديدة الحساسية تجاه تربيتهم تربية صارمة، تقوم على مراقبة الأولاد وسلوكياتهم داخل البيت وخارجه، ومحاسبتهم عليها محاسبة دقيقة. وفي تناول الكاتبة لبعض تفاصيل القصة يظهر خلال ذلك أن لمثل هذه التصرفات والسلوكيات والأفكار جذورا تاريخية قديمة تعود لجد ميساء وجدتها في السابق، اللذين كانا يعانيان من المشكلة ذاتها، بحيث كان بين الجد والجدة مشاكل في بيت الزوجية وخلافات مع أقاربهم، تتعلق بالميراث والزواج والأعراف السائدة في ذلك الزمان. وهي لا تختلف كثيرا عن المشاكل التي عانى منها أولادهما وأحفادهما فيما بعد. لكن بالرغم من هذا كله فقد كان للزمن ومرور الأيام والشهور والسنين وتطور الحياة المدنية الحديثة دور كبير في التأثير على حياة المجتمع، وانفتاحه على الآخر، وذوبان تلك الأعراف والتقاليد والمفاهيم الكلاسيكية البائدة، التي أصبح كثير منها لا يتناسب مع الحياة الحديثة، مما جعل قصة هذه العائلة مع الحياة تتغير الى الأحسن في الجزء الأخير من الرواية، بحيث بدأت ميساء وزوجها وأولادها أكثر قدرة من ذي قبل على الاندماج في حياة المجتمع الجديد ، وضرورة التعايش معه بالشكل اللائق، كمجتمع مدني متحضر، يسعى أفراده للتكامل والتعامل المبني على الوعي، وترك حياة العزلة بسياج تفرضه عادات وتقاليد لا تتوافق مع ما تشهده الحياة العصرية من تطور وتقدم في شتى المجالات، بما يحقق المصلحة العامة للجميع. وأعتقد أن مسمى الرواية « نسخ باهتة» كان يرمي إلى شيء من هذا المفهوم، بحيث كانت هذه الأجيال بدءا من الجيل الأول لهذه الأسرة ( الجد والجدة) صورا مكررة لبعضها حتى أصبحت هذه النسخ من الأولاد والأحفاد نسخا باهتة مع مرور الزمن لأصل كان يعيش في زمن تحكمه مجموعة من التقاليد والأعراف القديمة المتوارثة التي غابت عن هذه الحياة، ولم يعد لها وجود أو أهمية في الوقت الراهن كما كان لها في الزمان السابق، لعدم ملاءمتها للحياة العصرية الحديثة. أي أن الأصل بنسخته الأصلية الصارمة المحايدة قد ذهب، وبقيت صورته الباهتة المعبرة عن الذوبان في المجتمع الحديث وضرورة الاندماج فيه! إن هذه الرواية رصد تاريخي أدبي تسجيلي، يتتبع تفاصيل حياة عدة أجيال متعاقبة، والمقارنة بينها في ظل التغيرات التي مر بها المجتمع السعودي عامة خلال العقود الاخيرة من الزمن، والمجتمع الاحسائي خاصة. ويجد القارئ للرواية جمال لغة كاتبتها وعمقها وسلامتها، بدليل محافظتها على التمسك باللغة العربية الصحيحة، سواء في السرد أو الحوار! وعدم لجوئها للعامية الا فيما ندر من بعض الكلمات أو العبارات اللهجية التي تم ( تقويسها) أو وضعها بين قوسين للفت انتباه القارئ الى أن مثل هذه الكلمات الشعبية قد اضطرت الكاتبة لاستخدامها، وذلك لصعوبة وجود ما يقابلها في اللغة العربية الفصيحة، فأوردتها هكذا مقوسة لتكون في مقابل المعنى الفصيح المقصود الى حد ما، وان كانت ليست بديلا تاما له، وهذا أسلوب يرى بعض نقاد الرواية أنه نوع من ( الواقعية) التي يسعى لتحقيقها الكاتب في أي عمل قصصي يكتبه!

مشاركة :