تبدو ثنائية التوهّج والانطفاء واحدة من الثنائيات التي تحكم الحياة والظواهر، وحتى العواطف. ما يحملنا على إثارة السؤال المفزع: هل الانطفاء هو مآل التوهّج؟ خبرة الحياة على غير صعيد، في حياة الأمم وفي سيرة العواطف وفي مسار الأفكار، وفي عمر الإنسان ذاته تكاد تقودنا للإجابة بنعم، ولكن في حالات كثيرة بوسع المرء، واعياً، كما الأمم، أن تبقى على حالة التوهّج، وتتفادى الانطفاء. حين نقرأ صفحات التاريخ القديم والحديث تمر أمامنا لوحات عن حضارات رفيعة مزدهرة حققت شأواً في ميادين الاقتصاد والمعيشة والثقافة والعمران، لكن هذه الحضارات التي سادت وتوهّجت، وأبهرت العالم بما هي عليه من تقدم، عادت فبادت وانطفأت بطريقة تذكرنا بالتطور الدائري الذي ألحَّ عليه ابن خلدون في مقدمته، مُصرّاً على أن الحضارة، أي حضارة، آيلة للتدهور والخراب بعد أن تبلغ الذروة، فهي إما تخبو بالتدريج حين تتآكل من داخلها، وتفقد قوة الدفع التي كانت عليها، أو تنهار تحت ضربات غزاة عتاة حين يجري التاريخ بلا رحمة ويفرض على أصحاب هذه الحضارات نزعها الأخير، مملياً عليهم شروط الاستسلام. في باب العواطف، كذلك، نرى أن تلك المشبوبة منها والمتوهّجة حد الاشتعال لا تبقى دائماً على حالها، فيخف عنها الوهج، وقد يعلوها في حالات أخرى الرماد ويتحايل الناس بطرق شتى لإبقائها حية، أو تجنب ما يحملها على ولوج مسار الانطفاء ما في وسعهم. وحين يتصل الأمر بالفكر علينا أن نفرق بين نوعين منه: فكر متقد، متسائل، متحرر قدر الإمكان من القيود، وفكر منطفئ، سكوني، وثوقي يسعى أصحابه لإخفاء حقيقته تلك بإضفاء مظاهر من الاحتفاء والبهرجة واللمعان الزائف، ولكنها مظاهر تعجز عن ستر هشاشته، كونه فكراً من رماد يعد بمشاريع من رماد أيضاً. الفكرة المتوهجة فكرة واعدة، مستقبلية، محفزة على الأسئلة الشجاعة التي تنبه إلى مكامن الضعف والهشاشة والخراب، أما الفكرة المنطفئة فهي انهزامية تجر جراً نحو الثبات، وبالتالي نحو الماضي، لأن أصحابها يخشون التغيير وينبذونه، لأن الأسهل عليهم متابعة الحياة بالإيقاع المألوف، خوفاً من مغامرة تجريب ما هو غير مطروق وولوج دروب غير مأهولة. ألم يقل الحلاج: في المغامرة النجاة؟ التوهّج هو أن يمتلئ الرأس بالمشاريع وبالأسئلة، وأن تضج النفس بالأحلام ويختمر الذهن بالأفكار، ويحاصرك التوهّج بمشاعر القلق من أن الوقت سريع في جريانه، ما يدفعك دفعاً لإنجاز الخطوة قبل الموعد. madanbahrain@gmail.com
مشاركة :