تنطوي هذه المجموعة الشعرية التي تتكامل قصائدها مشدودة بوثاق الرؤيا في خصوصيتها ووحدتها إلى عنوان الديوان الذي لم يستلّ من عنوان أيٍّ من قصائده بل بدا إطارا جامعا يختزل رؤية كلية لمجمل ما جاء فيه من نصوص . وأول ما يطالعنا في هذا الديوان قصيدة عنوانها (الناي يغري بالحزن) وهي القصيدة المفتاح التي نلج من خلالها إلى بهو الذات, وإلى الرؤيا التي تتشكل في فضاء القصيدة ؛ بل في فضاء الديوان كما يتضح بعد ذلك, فنحن أمام قطبين متجاذبين يتمثّلان في ظاهرة لغويّة تركيبية تتمثل في (أساليب النفي ) التي تستغرق جلّ مقاطع القصيدة، عدا المقطع الأوّل الذي يبدو أشبه بخطاطة للذات تتناسل منها كلّ التفاصيل بعد ذلك, فالناي هذه الألة التي توحي عبر حمولاتها النّصّيّة في التراث الأدبي بالحزن, تبدو مفردة ملتبسة في منطقة دلالية ضبابيّة بين النغم والشجن, تتّسع أمداؤها لتحلق في أجواز شاسعة المدى ؛ ولكنها تظلّ وفيّة لما تثيره من رؤى تتجاوز الفكر إلى الفن حيث التداخل بين الفخر والشكوى بوصفهما غرضين تقليدييّن والبحث عن الذات والغربة تمثّلا حداثيّا . وفي المستهل يقدّم الشاعر ركائز ست تتمثل في معجمه الذي انبنت عليه القصيدة : الظل والاسم والذات والطفل والناي والموت والقدر، وإزاء كلِّ مفردة ما يقابلها في جديلة ثنائيّة عميقة الدلالة تستعصي على الشرح وتمتطي صهوة التأويل : فالذات يقابلها الظل, وهويتّسع لمعنى الرّاحة والسّكينة ؛ فهل يعني ذلك أن الوصول إلى هذه المحطّة يحتاج إلى العبور, فالنافذة والباب إذا أغلقا استعصى عليه الولوج إليهما, وكذلك الذات والاسم والوسيط (احتمال الشك) وهوالذي يجعل التحقق الذي يوحي به الاسم ريبةً قد تحول دون تحقيق الذات شأنها شأن الشخوص العياني والظل المرتقب, ليس هذا فحسب ؛ بل تتراكم العوائق (اللعثمة واليتم) وهما عائقان : الأوّل يرتبط باللغة والإفصاح والبوح، والثاني الحرمان وافتقاد السّند وتراكم الموت والغياب والحزن، وكل ذلك يتجسّد في (الناي) ليس هذا تفسيراً؛ ولكنه استشفاف للرؤية ؛ فهذه كلها عوائق تحول دون تبلور الاسم (الهوية) ما يفضي إليه المقطع الأول, وهو قائم على صيغة الإثبات والتقرير ووصف الموقف وبيان لمناخاته وتمثّل له, في حين تتراوح المقاطع الباقية بين تراكيب تطغى عليها عملية النفي المتكرر والإثبات الذي يردف هذا النفي على مدى المقاطع الثلاثة الأخرى, فالقصيدة رباعيّة التكوين, ينهض الأول منها بمهمة إرساء القاعدة التي تنطلق منها الرؤية, وحصيلتها بنية ذاتيّة مهتزة تقوم العلاقات فيها بين الذات وهُويّتها ومرفأ الآمان وتحقيق الوجود على أسس مهتزة قلقة تلامس سقف الغياب والموت ؛ فحركة التأسيس للوجود مرتبكة نزّاعة إلى تشكيل بنية الاستلاب التي تتأكد عبر المقاطع الباقية, يتمثل ذلك في تكرار مفردات بيني وبين, فضلاً عن حسٍّ تراكميٍّ ثقيل عبّرت عنه واو العطف التي تدلّ نحويّاً على مطلق الجمع (مجرد التراكم فحسب) وحشد من المصادر المجرّدة المطلقة من قيود الزمن المشرعة في وجه العدم, وتمثل أغلبية الألفاظ في المقطع, وكلّها تنحصر في حقلٍ دلالي يومئ إلى الاستلاب ( الخوف والاحتمال والتلعثم والشك والموت والغياب والحزن) “ بيني وبين الظل نافذة وباب / بيني وبين اسمي احتمال الشك / خوف يوسوس من ذاته / وتلعثم الطفل اليتيم / وعزف موقن بالحزن / (موت معلن) / قدر يؤسس للغياب” تنهض الصورة فيه على التداخل بين التجريد والتجسيد في مجاز استعاريّ قريب الدلالة غريب التكوين, وهذا يدل على حضور الوعي والحسِّ والشعور ؛ فالشاعر يقدم رؤيته كما يحسّ بها وكما يعيها، أما في المقطع الثاني فهويستغرق في نفيٍ متّصلٍ بمختلف أدوات النفي التي يتكرّر في سياق يتّسم بالتداعي والسيرورة : (لا ولست ولن وما) لينتهي في آخر المقطع بتقرير يؤكّد مضمون النّفي, فقد جرّد الذات الشاعرة من كل الصفات التي يتمنى الشعراء أن يتّصفوا بها, فالقيثارة التي ينفي أن يكونها هي صوت الشاعر الذي يصدح بهموم الإنسان, وكذلك الناي الذي يتغنى بالألم ويعبر عن الأحزان, وصوت الضمير الحر الذي يدافع عن المضطهدين والمظلومين, وإمام العاشقين حيث رهافة الحس والتّوق الأزليّ إلى المحبوب, وهو إذ يعمد إلى استقصاء ذلك كلّه نافياً له, وهي في مجملها منظومة من الصفات الأخلاقيّة يعمد إلى استغراق الملامح الجسديّة حواسّا ومظهراً منكرا تمثّلها لتلك القيم : فلا الوجه هو وجهه : إذ ينكر ما كان عليه مغترباً عن ذاته, ولا عيناه ولا لونه كما اعتاد عليهما ليفاجئنا بتقرير يؤكّد فيه هويته الحقيقيّة كشاعر: “فأنا هلامي كعطر الورد/ معتلّ كحرف شذّ عن أقرانه / وأنا الكتابة والكتاب” في المقطع الثالث يواصل التقرير مثبتاً للذات ما يؤكد مأزق التيه وإشكاليّة الإلغاز, تلك معضلة وجوديّة، ينطلق منها ليواصل مسار النفي في القصيدة، ولكنه نفي لقسمات ملتبسة, فإذا كان النفي في المقطع الثاني مُصادرة للوجود الإيجابيّ وتخلٍّ عن سمات إيجابية, ربما قصد منه إلى عكس ما صرّح به فيما يشبه التقريع لأولئك الذين تخلَّوا عن تلك الصفات مسقطاً لها على حقائق الواقع الذي تخلّى فيه الشعراء عن دربهم وتنكّبوا مساره, فهو هنا ينفي عن الذات الشاعرة التي لم تعد ذاته المحدودة بحدود (الأنا) وإنما الذات الشاعرة بعامة في خِضمِّ واقع مُشكِلٍ يختنق فيه الشاعر تحت وطأة عبءٍ ثقيل فينفي عنن الذات الشاعرة (ربما ساخراً) إحصاء الخطايا وتفاصيل الوشاية والاتكاء على الآخر والتربص (كامناً في الوقت) والغايات الخبيئة ومقوّمات التكوين للوجود الحقيقي (لا أنا ماء ولا ظلي تراب ) معبّراً عن اضمحلال الهوية, هذا النفي لهذه المقومات ليست مختصة بالأنا الشاعرة تحديدا ؛ بل هي إسقاط على واقع الشعر والشعراء, من هنا كانت غلبة التشكيل الكنائي ليس بالمفهوم البلاغي ؛ بل بالمفهوم الدلالي . في المقطع الأخير يزاوج بين التراكيب الدالّة على الإثبات والنفي في تشكيل للمفارقة الموقفيّة التي تفصح عن مرارة واقعٍ تزدوج فيه الرؤى والمواقف, فهو يتحدّث عن النرجسيّة, وهي من الألفاظ التي تدل على اعتلالات نفسيّة ( وبالهوى واللهو، مغرم بالتيه ) سلسلة من التجلّيات يتقمّص فيها الشاعر واقع الشعراء ينطق باسمه يعرّي ادعاءاتهم وتناقضاتهم, متمثلا لها في فيض من التداعيات حتى يصل إلى ذروتها فيقرن بين الأنا الشاعرة المتعاظمة وبين كبار الموسيقيين والمغنين, تتقاطع الحقائق والضلالات في خَلَد هؤلاء الشعراء, وتتماهى الأنا الشاعرة مع هذه الرؤى لتفجّر فيها مفارقة تكشف الرؤى والمواقف: “ وحدي مغرم بالعزف/ موّالي بكاء الناي / لا يغريني اللحن الموازي/ ليس بيتهوفن غريمي في مقاماتي / ولا زرياب “ يظل الوعي في كامل يقظته حين الكتابة ؛ فالشاعر يريد أن يبلّغ رسالة كما يتبدّى ذلك في قصيدته (تأويل مالم يكتب ) يقول فيها “عزّز حضورك في الكتابة وأي كتابة لا تحمل السلوى فليس لرسمها الوقع المؤثّر” ولكنه لا يغادر منطق الشعر إلى نثريّة مبتذَلة, فما يبدو بلاغاً سطحيّاً ساذجاً يكون موظّفا في إطار فهم خاص للمفارقة وجمالياتها, وهو سبيل سلكه الشعراء المعاصرون . لقد استثمر الشاعر التفاصيل الصغير في حواريات نصّية موظفة في بنية القصيدة، فضلاً عن احتشادها بما يحيل إلى معاناة الكتّاب والشعراء والروائيين في سلسلة من النماذج والصور والإحالات والتناصات, مستثمرا حواريّات تدور حول الكتابة ومراحلها والرّفاق المحبطين في منحىً تغريبيٍّ , لا بالمعنى اللغويّ ولكن بما هو متعارف عليه في أدبيّات النقد حيث تعرية الأدوات وتجريدها من دثار التمويه, والزحف بها إلى تخوم بعيدة تستدعي معاناة إنسانيّة مستلّة من عمق التاريخ ( الموريسكيين) رمز المعاناة والاضطهاد . الشاعر صاحب رسالة تومئ إليها تجليات القصيدة في انثيالاتها عبر ارتحاله إلى أعماق الذات منقّبا في طبقاتها, باحثاً عن جوهرها أشبه بالغوّاص الذي ينقّب في أعمق المحيط ليحظى بصدفاتها المكنونة في الأعماق كما تتجلى في قصيدته (البعد يسرف في الصواب) “أخطوخطوتي الأولى / فترتد الطريق مسافتين إلى الوراء / فلا أقاومها لعلي أستعير / ملامح البؤساء من لغتي” وهكذا تمضي به قصائد الديوان التي تقتضي دراسة موسّعة لا تتسع لها مثل هذه المقالة, ولعله يكون لي عودة أخرى .
مشاركة :