مهما تعددت حدود الإيديولوجيا واختلفت، إلا أن اتجاهين أساسين يجاذبانها على الدوام؛ يحصرها الأول في المنظومة الفكرية السياسية، ويجعلها الثاني شاملة للإنتاج الثقافي بصفة عامة. وهو نفسه التصنيف الذي اعتمده المفكر المغربي "عبدالله العروي" في تحليله للإيديولوجيات المختلفة وتصنيفها في هذا الاتجاه أو ذاك؛ وذلك حسب نظرتها للعالم. من هذه الإيديولوجيات تلك التي تخفي الحقيقة، ومنها التي تُعتبر نظرة كونية، وغيرهم كثير. وبتركيزنا على هذين النوعين الأخيرين؛ سنحاول -فيما يلي- أن نبحث في الإيديولوجيا بوصفها قناعاً (مع فلسفة الأنوار)، والإيديولوجيا بوصفها نظرة كونية (مع مثالية "هيغل"). تحيل الإيديولوجيا في مشروع فلسفة الأنوار (القرن الثامن عشر، ويؤكد أغلب المؤرخين أن هذا العصر ابتدأ سنة 1715 وانتهى باندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789) على التفكير غير العقلاني وغير النقدي الموروث من عهد الاستبداد، والناتج عن الصراع الفكري الذي أفرز الصراع السياسي والاجتماعي بين المحافظين (رجال الدِّين/ الإكليروس) والنبلاء من جهة، والهيئة الثالثة (الشعب "الثائر") من جهة ثانية. حاولت هذه الهيئة أن تحارب الأوهام، والتقليد، والاستبداد واعتبرتها أقنعة للحقيقة وتعتيماً لها؛ ومن هنا انبثق الصراع بين الكنيسة والفلاسفة. ذلك أن الإكليروس يتهمون الفلسفة بالتحريض على التمرد ومحاربة الأخلاق؛ واصفين إياها -على حد تعبير "عبد الله العروي" في كتابه مفهوم الإيديولوجيا- بـ"الثورة الشهوانية ضد الأخلاق". أما الفلاسفة فينظرون إلى الإكليروس بوصفهم سلطة ظلامية تعيق وصول أنوار العقل إلى الحرية والحقيقة والمعرفة؛ لتعلقها بالاستبداد والجمود. وحتى نضع اليد على جوهر الإيديولوجيا عند فلاسفة الأنوار، لا مندوحة من مقارنة سريعة بين تصورهم وتصور رجال الدين لعدد من المفاهيم، وعلى رأسها: الطبيعة الإنسانية: هي عند الإكليروس ساقطة ومُدنَّسىة بسبب خطيئة آدم، وأما عند الفلسفة فهي طبيعة طيِّبَة. العقل: يعده الإكليروس عاجزاً عن الإدراك بدون دعم ومساعدة من الله، في حين يرى الفلاسفة أنه قادر على المعرفة وعلى سبر أغوار الكون. الحرية: يرى رجال الدين أنها صفة يكتسبها الإنسان من الله، بغية التحرر من الشهوات والغرائز الحيوانية، بينما يجعلها الفلاسفة الصفة الأولى للإنسان؛ فهو حر بطبيعته. وغيرها من المفاهيم التي تبرز التناقض الصارخ بين الفريقين. وعلى هذا الأساس، تكون الإيديولوجيا -بالفعل- عند فلاسفة الأنوار هي "علم الأفكار" الذي يحاول الإجابة عن سؤالين محددين: من ناحية، كيف نفكر تفكيراً سليماً؟ ومن ناحية ثانية، كيف يمكن للأفكار الموروثة ومجهولة الأصل أن تؤثر في أذهاننا؟ أما بالنسبة إلى السؤال الأول، فالإجابة عنه تروم إصلاح المنطق والحس السليم (وهو ما لا يهمنا في هذا المقام)، وأما الإجابة عن السؤال الثاني فتهدف لتحرير العقل، وبالتالي المجتمع، من الأوهام التي تعتم الحقائق، ومن الاستبداد والطغيان. نشير إلى أن التصنيف الذي اقترحه "العروي" للإيديولوجيات، يدرج مشروع فلسفة الأنوار ضمن "أفكار ما قبل الإيديولوجيا"؛ لذلك فهي لم تشر إلا إلى جانب واحد من جانبي المشكلة، وهو جانب تأثير الأفكار الموروثة ومجهولة الأصل على تفكير الفرد، دون البحث في أصلها. فهذه الأفكار تعتم الحقائق، ولا يسترجع العقل صفاءه إلا بتبدُّدِها؛ وبالتالي الوصول إلى الحقيقة المطلقة. وهكذا، لم يُنظَر إلى الإيديولوجيا في عصر الأنوار إلا من خلال منظور العقل الفردي بوصفه كاشف الحقائق؛ بحيث إنه لا يتغير سوء عند الفرد أو لدى الإنسانية جمعاء. وعلى العكس من هذه النظرة للإيديولوجيا، نجد في نفس الفترة تقريباً نظرة أخرى مغايرة لها مع الفيلسوف الألماني المثالي "هيغل" (1770-1831)؛ الذي كانت تشكل لديه نظرة كونية. ولكي نصل إلى فهم صحيح لإيديولوجية "هيغل"، من الأفضل أن نتتبع تطور الفكر الهيغيلي بإيجاز. اعتبر "هيغل" أن الفكر ينعكس على الواقع عبر مجموعة من الحركات الدياليكتيكية (الأطروحة، ونقيضها، والتركيب). وبناء على هذا حلل الثورة الفرنسية؛ حيث اعتبر التقليد والاستبداد عنصرين مشكلين للـ"الأطروحة"، ثم جاءت الثورة فنفتهما مشكلة بذلك "نقيض الأطروحة"، غير أن اعتمادها على العنف والسلاح أسقطها بدورها في الاستبداد، فنُفِيَت أيضا بمجيء "نابليون بونابرت" (1769-1821) الذي "ركَّب" بين التقليد والثورة. بعبارة أخرى، فإن "روح العصر" تركت النظام الملكي (الممثِّل للاستبداد/ الأطروحة) لتحل في النظام الثوري (الممثِّل للتجديد/ نقيض الأطروحة)، ومنه إلى نظام "نابليون" (الجامع بين الأطروحة ونقيضها في التركيب). وفي كل مرة تغادر فيها "روح العصر" دولة ما، فإنها تترك خلفها الدمار والضعف والتخاذل؛ وبالتالي فهي المتحكمة في صيرورة التاريخ. يعتبر "هيغل" أن التاريخ هو منطق الأحداث، ومحركها الباطني، ومجال تجسد الحقيقة المطلقة. وأما المطلق فليس بكينونة، بل هو صيرورة تخضع للتحور والتغيير؛ وبالتالي فهو لا ينعكس على الذهن بمجرد صفائه كما آمن بذلك فلاسفة الأنوار، وإنما يتجسد في أدوار تاريخية متعاقبة، باحثا عن الحرية. وعندما تترك "روح العصر" دولة لتحل في أخرى، فإنما تنتقل من حرية إلى حرية أعلى، في حين أن "روح التاريخ" واحدة رغم تعاقب الحقب والفترات. ورغم أنها قد تبدو غير تامة في حقبة ما، إلا أنها تبقى كاملة وكونية بالنسبة إلى خطة التاريخ العامة. ومن هنا يشكل روح هذا التاريخ المنطق الكامن وراء كل الإنتاجات؛ لذلك فالعجز عن فهمه يؤدي إلى الفشل في فهم هذه الإنتاجات. إن روح التاريخ تمثل كلمة السر الأساس من أجل إعادة الحياة لآثار الماضي. تأسيساً على ما سبق، تعتبر الإيديولوجيا الهيغلية منظومة فكرية تعبِّر عن الروح التي تحفِّز حقبة تاريخية معينة نحو هدف محدد في الخطة الإجمالية للتاريخ. وبالتالي، ينظر "هيغل" إلى الإيديولوجيا انطلاقاَ من التاريخ بوصفه خطة واعية بذاتها. إنها مرتبطة بالتاريخ والمجتمع في ذات الآن. وعلى العموم، تبقى الإيديولوجيا سابحة في فلك المتعدد، بعيدة عن دائرة التوحد والاتفاق؛ فإذ كانت في القرن الثامن عشر ستاراً اجتهد الفلاسفة في محاولة إزالته عبر الاعتماد على العقل الفردي، فإن الفلسفة الهيغلية عدّت الإيديولوجيا نظرة كونية هي المحرك الأساس للحقب التاريخية. لذلك فقد استفاد القائد الألماني "أوتو فون بسمارك" (1815-1898) من هذه الإيديولوجيا المثالية في سياسته للدولة؛ محققا عبر وساطتها وحدة بين الطبقة الحاكمة والشعب. والواقع أنها في فترتنا المعاصرة أصبحت ترتبط أكثر بالانشغالات السياسية، ومحاولة تحوير الواقع -رغم كل ما في الأمر من تجاوزات- خدمة لأجندة سياسية مؤقتة في الزمان والمكان، وقابلة للتغير على الدوام؛ وهو ما يُفقِد المواطن البسيط قدرته على فهم واقعه المعيش؛ ومن ثمة انفراط عقد الثقة بينه وبين من يُنِيبُهم عنه لتسيير هذا الواقع. أستاذ مُبَرَّز في اللغة العربية، المغرب عبدالله العروي هيغل نبيل موميد
مشاركة :