نجح علماء النفس في فك طلاسم العديد من الأمراض التي تفتك بالصحة النفسية والعصبية لضحاياها، كما برعوا في اختراع العقاقير التي توقف تطور الأمراض الخطيرة منها، إلا أنهم لا يزالون يعجزون عن مواجهة بعض العوارض المرضية التي لا ترقى إلى تسميتها بالأمراض، بل مجرد أعراض ترتبط ببعض الأمراض. ومن الناحية التاريخية عرف الطب النفسي عارض الوسواس القهري، واكتظت المكتبات العلمية بالعديد من المؤلفات التي تناولت وصفاً للمرض وتعريفاً له، إلا أن كتب نادرة تناولت العلاج، ربما لأنه أصعب وأشق مرحلة واجهها العلم الحديث. ونبدأ القصة من البداية، لنشرح أن الوسواس القهري ليس إلا خوفاً مبالغاً فيه، يؤدي إلى ارتباك في الحياة اليومية للمصاب به، يضطر إلى القيام بسلوك يجافي المنطق والعقل السليم، ولكنه مدفوع إلى ذلك دفعاً لا يستطيع السيطرة عليه، فيدخل حلقة مفرغة لا نهاية لها، يغلق بابه بالمفتاح ثم يفتحه ليتأكد من عدم وجود لص في الخارج ثم يعود لإغلاقه، ثم يفتح من جديد للبحث عن اللصوص، وهكذا. ومن الأخطاء الشائعة ربط بعض الناس بين الإصابة بعارض الوسواس القهري وتكرار غسل اليدين، والواقع يؤكد أن الوسواس يفرض تكرار الأفعال المضادة للضرر، وللفوضى، وتلازمه الفكرة المرتبطة بذلك الضرر في كل وقت، على الرغم من تفاهتها، ومنها غسل اليدين ولكنها ليست حصرية على ذلك الفعل، فالمصاب بالوسواس يكرر النظر إلى الطريق عدة مرات قبل خروجه بالسيارة، وربما يحجم عن الذهاب إلى عمله إذا شك في احتمال سقوط الأمطار، ويراجع أزرار الكهرباء مرات ومرات خشية حدوث تماس كهربائي خلال نومه، ويراجع كذلك مفاتيح الغاز لأسباب أمنية قبل ذهابه إلى الفراش، يرتب أغراضه في الخزانة بمعدل مرتين أو أكثر يومياً، يتفادى مصافحة الآخرين تفادياً للعدوى المرضية، وهكذا، تعتمد حياته على الشك في كل شيء، ولا يترك للظروف فرصة ولا يأمنها. واختلف العلماء في تحديد انتماء الوسواس القهري إلى طائفة الأمراض النفسية أم العقلية، إذ إن له جانباً نفسياً يتلخص في انعكاسات السلوك على المريض والمحيطين به، وكذلك جانب نفسي إذ إن أعراض الوسواس تحدث نتيجة سوء معالجة المخ للمعلومات المرسلة إليه، على أن التفرقة بين الوساوس الطبيعية والمرضية تحتم علينا أن نضرب مثلاً، فلو توفي أحد الأصدقاء نتيجة حادث سيارة، من الطبيعي أن نشعر بمخاوف ذات صلة، تدفعنا تلك المخاوف لفحص المكابح لدى شركة الصيانة، ومن الطبيعي كذلك أن يعلق الموضوع في أذهاننا لمدة أيام وربما أسابيع، فيدفعنا لاتخاذ الحذر خلال القيادة، لكن ليس من الطبيعي ألا نقود السيارة بعد تلك الحادثة مخافة تكرار الأمر، كما أنه من غير المقبول أن تسيطر علينا الفكرة كلما جلسنا إلى مقعد القيادة، باختصار لا يمكن اعتبار الأمر مرضاً ما لم يؤثر في مسيرة حياتنا اليومية ويمنعنا من أداء وظائفنا وأدوارنا الروتينية، فإذا تجاوز تلك الحدود فيعني ذلك الحاجة إلى العلاج. تشير الدراسات إلى أن الوسواس القهري يمكن أن يصيب الإنسان في أي مرحلة سنية، لكن معظم الحالات تبدأ مشكلاتها منذ الطفولة، ولا يستطيع الأطباء تشخيصها بسهولة لعدة أسباب أهمها اختلاط الأعراض مع العديد من المشكلات النفسية والعصبية الأخرى، وحرص الطفل على إخفاء مشاعره وأفكاره خشية تلقي عقوبات بشأنها، علاوة على النظرة الدونية من جانب المجتمع للمصابين بتلك الأعراض، غير أن التأخير في اكتشاف المرض ليس المشكلة الوحيدة، حيث لم يستدل العلماء حتى وقتنا هذا على أسباب واضحة ومباشرة للإصابة باضطرابات الوسواس، عزاها بعضهم لتغيرات في كيمياء المخ، والبعض الآخر لعوامل وراثية، بينما أكدت مجموعة ثالثة دور التربية القاسية من جانب الوالدين في ظهور الأعراض، في حين ربطت فئة رابعة من الأطباء بين الوسواس القهري وإصابة الحنجرة بالجراثيم العقدية خلال مرحلة الطفولة، بينما ترى فئة خامسة أن الأمر يرتبط بسيولة انتقال البيانات من الفص الأمامي للمخ إلى الخلايا المسؤولة عن التحليل في الدماغ، حيث تتولى مادة السيروتونين القيام بهذه المهمة، ونقص تلك المادة يؤدي لظهور أعراض الوسواس، إلا أن كل هذه الأسباب لم تؤكد بعد. حذر العلماء من مغبة تجاهل علاج الوسواس القهري لما لذلك من تداعيات خطيرة على الجانب النفسي للمريض، فأسوأ المضاعفات المحتملة هي الانتحار نتيجة العجز الدائم عن مواجهة الشكوك بالحقائق، علاوة على استهانة المحيطين بالمريض وسخريتهم من سلوكه، بينما يعتبر الاكتئاب نتيجة مرتقبة لإهمال العلاج، وفي بعض الحالات لا يكتشف الاضطراب إلا عند وصوله لمرحلة الاكتئاب باعتباره أسهل في التشخيص، الذي يعتمد على التقييم النفسي والفحص السريري ومناقشة المريض للوقوف على حقيقة اضطراباته، وهل تعد مرضية أم يمكن اعتبارها طبيعية. وفي مجال العلاج اتفق العلماء على ضرورة توفير الجانبين المهمين من العلاج، الجانب النفسي والعضوي، يعتمد الأول على الجلسات المنتظمة لتغيير الأفكار الممنهجة التي تحتل ذهن الشخص، بينما تعتمد العلاجات العضوية على الأدوية والعقاقير التي تقوم بدور مهم إلى جانب الجلسات العلاجية، ويعتمد الأطباء على مضادات الاكتئاب في علاج مرضى الوسواس، على اعتبار النقص في مادة السيروتونين الناقلة للبيانات الدماغية، إلا أن أبحاثاً حديثة عززت من دور الفيتامينات وخاصة فيتامين ب في التخفيف من أعراض المرض، مع استخدام بعض العقاقير الأخرى، غير أن نجاح العلاج يعتمد على عدة محاور أهمها الرغبة المؤكدة من جانب المريض في العلاج بعد اقتناعه بطبيعة مرضه وبحاجته إلى المساعدة، إلى جانب مدى عمق المرض وتاريخه مع المريض، بالإضافة إلى مهارة الطبيب المعالج وسعة اطلاعه وخبراته في علاج ذلك النوع من الأمراض. ومن أشهر من أصابهم الوسواس القهري خلال حياتهم لاعب الكرة البريطاني الشهر ديفيد بيكهام والمطرب الأسطورة مايكل جاكسون والموسيقار الراحل المعروف محمد عبد الوهاب.
مشاركة :