عندما يتحول الكيان إلى سؤال، تتحول الكلمات إلى رعشات لها نبرات تسأل عن ماضٍ تهافت مثل حصى تتقاذفها رياح حارقة، يدفعها عصف رياح القبلي الحارة. ليبيا التي تتمدد أقدامها في مياه البحر الأبيض المتوسط الذي تغوص فيه فلسفة الحضارات، وتعبر قوافلها مفازات الصحراء الكبرى تحمل لها الإسلام، وفقه الإمام مالك بن أنس، ويقيم فيها الشيوخ الليبيون ممالك قارعت التنصير والاستعمار الفرنسي. ليبيا اليوم صفحة تنتظر أن يكتب عليها أولادها شيئاً بحبر عشق الأولين. لكن أين الأقلام وأين الصحف التي يرسم سطورها الحب والعشق ويرش فوقها عطر الحياة. السلاح صار هو القلم، والدم سال في الدواة التي عرفها الليبيون قديماً بـ«الدواية»، يَصبُّون فيها سائل الصمغ، ويضعون فيها بعضاً من صوف الضأن الذي تخثَّر من عرق القبلي الحار الموحي بالحياة التي تنضج ببلح النخيل. ليبيا كانت مصنعاً للفرح والأغنيات. غنَّى لها صوت سكن فيه نفحة الوجد والعشق الفواح، محمد صدقي. كان الليبيون في ستينات القرن الماضي، يتحلَّقون حول الراديو ينتظرون لعلعة صوته قبل نشرة أخبار الساعة التاسعة والنصف مساءً ليطربهم، وهو يصدح بأغنية «نريد الجَفَا يكويك يومْ بناره... نِينْ تعرفه معنى الغلا وأقداره». نعم، نعم، لقد كوانا الجفاء اليوم بناره أيها الراحل محمد صدقي، وعرفنا معنى الغلا وأقداره. غاب الغلا وحلَّ الجفاء، ونثر نيرانه ولم يعد في النفوس قلوب تشعُّ بالغلا. ليبيا، أغنية غناها أولون، واستمع لها راحلون، وتجمَّدت في زمن دفنته الرمال، كما ترش الرمال ترابها على زمن مات في جوف تيبّس. ليبيا أغنية الزمان الذي أرهق ذاته، ركض بين البر والبحر، بين الفينيقيين والرومان والفتوحات والفاطميين والترك. بين التجارة والقوة والغموض المتفجر. طافت ليبيا في الزمان، لكنه أرهقها بعنف المكان الذي يصنع من الماء والتراب حبالاً وسيوفاً وبرقعاً يخنق العيون ويضع بين الخطى سطوراً هي حبال من ثلج ونار. أغنية جلَّلها لحن فيه من الفرح ما يكفي لأن يجعل الدنيا ترقص بسيقانها على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، وتزفه نهودها تهتف غنجاً وهوى لأهل الضفة الأخرى، أوروبا التي تتمخطر في أبّهة الرفاه وفي تيه القوة والعلو. تكوين قارع الكبار يوماً في عهود كانت القوة فيه دون سن الرشد، ولكن ليبيا أتقنت فنّ النجارة وصنعت أسطول قوة القرصنة التي قارعت قوة ولدت في أقصى الوجود، وحارب القرصان القرهمانلي أسطول أميركا في معركة تغنيها البحرية الأميركية إلى اليوم. ليبيا أغنية ابتلعت شجنها وهجرت بحرها ورشت على فمها تراباً ليس من وجدان صحرائها. أغاني العلم التي يغزل فيها العاشق البدوي في برقة، نبرات الوله أوبرا القلب إلى محبوبة يراها في ربا الجبل الأخضر، يقول لها، آهات عشق بلغة الجبل التي يرنمها الصدى، في حفلة ذاتية يصفق لها ندمان الصفا في حلقة كشك لها بحور وقوافٍ يبدعها من دقَّ وجدانه إيقاع الوجد الحميم. ليبيا أرض الصمت والكلام التي كتب منها القسيس مرقص أول إنجيل وهو في كهوف مدينة المرج، وكان الفيلسوف أرستيبوس الذي تعلم من أرسطو، وكان ابنها سبتيموس سيفيروس ابن لبده الطرابلسية إمبراطوراً لروما، ليبيا يسكنها الوجد والوجود بما فيه من طوفان العقل وزلازل التيه الكامن في تلابيب الحياة، دقَّ على أبوابها قلق الزمان فكان الحب عطراً، والدم لثاماً والأقدار مسارب بين الناس والمكان والزمان. هناك آهات يكتبها الشعراء وهم في كهف المكنون الذي يتساكن فيه العقل والقلب، لكنه شهيق ذات الوطن. الشاعر الليبي المبدع والعابر للأحاسيس والوجدان أحمد الحريري، وهو شاعر الحب، كتب أغاني عصر الأيام والقلوب والحياة. احتكر الفنان الكبير سلام قدري تلحين وغناء ما أبدع. في عهد ثورة الفاتح، ضُيّق الخناق عليه، ومنعت أغانيه لأنَّه صُنف بالمضاد للثورة. كتب له الحريري أغنيات فيها آهات عشق للحبيب، لكنها تفيض بحب الوطن المسكون بكل ما هو جميل من الحياة ورداً وعطراً وعشقاً. كتب أحمد الحريري للمطرب سلام قدري أغنية عرجون فل. قال فيها «عرجون حب منين فاح خذاني... خطر عليا حبنا الحقاني... خطر عليا زينك... والليل ساهر وسط ممي عينك... خطر عليا هلال فوق جبينك... ورموش قيَّل تحتهم وجداني». لمن كان يكتب الحريري، ولمن كان يغني سلام قدري؟ الكيان العجيب ليبيا بكل ما فيها، هي أغنية مكتوبة بحبر البر والبحر، وتعبيرات الصحراء التي يمتزج فيها الوجد الصوفي بلفحات المعاناة التي تتماهى مع نفحات الامتداد في فناء الوجود. الشاعر الحكيم الشيخ قنانه الزيداني، أسس لمرحلة عبور زمنية قال: «تركناه حب الوطن ياسر منه... بلا مال لا هو فرض لا هو سنة...» لكنه عاد بقوة العقل إلى ليبيا، وجعل حب الوطن فرض عين، وقارع الفقر والظلم بحكمة الكبار ودهاء الرجال. تحالف الفقر والضعف مع جغرافية الوهن، لكنه حفر أساساً لقوة رفض هيمنة التراب بشعر الحكمة العابرة لقهر المكان الطاغية. اليوم ليبيا تطوف في تيه ابتلع العقل وانفرط فيه عرجون فل من إبداع شجرة وطن زرعها التاريخ وضمير الحياة الليبية بجذورها العميقة في كيان الزمان والمكان. سائل الصديد، مرض التشوه الذي ينزُّ من مسام العبث الجنوني، لكن عرجون الفل هو الحلم الخالد الذي لا يفارق عنق الوطن الليبي، الذي يقرع ناقوس العشق المقدس الساكن في ضمير الوطن. ليبيا أغنية لها حواس تنبض وستنهض رغم صرخات الجهل المسلح. «عرجون الفل» ما زال في قلب ليبيا ورقبتها، أما الجهل الدامي فهو زبدٌ يذهب جفاء.
مشاركة :