بيروت - تحل اليوم الاثنين الذكرى 78 لاستقلال لبنان هذا العام في ظرف استثنائي في ظل أزمة طاحنة بشقيها السياسي والاقتصادي، وضعت البلد وأكثر من نصف شعبه على حافة الانهيار الشامل، بينما عمّق نفوذ حزب الله وهيمنته وحلفاؤه على السلطة عزلة الدولة التي باتت عاجزة عن معالجة متطلبات الحياة لشعبها من دواء وغذاء ووقود، فيما تدفع الجماعة الشيعية البلاد بعيدا عن فضائها وعمقها العربي إلى حضن إيران التي استثمرت المأزقين السياسي والمالي لجهة تعزيز نفوذها وتغلغلها أكثر في ساحة باتت شديدة الاضطراب. ولم تكن تصريحات جورج قرداحي وزير الإعلام في حكومة نجيب ميقاتي حديثة الولادة، والتي اعتبرت مسيئة للخليج ولدور التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، استثناء في سياق أزمة تكبر ككرة الثلج منذ أن صادر حزب الله صلاحيات الدولة وأضعف كيانها بتدخلاته الخارجية وبأنشطة كسرت مبدأ النأي بلبنان عن النزاعات الإقليمية. ويُعتقد أنه لولا هيمنة حزب الله ما كان لبنان ليصل إلى حافة الانهيار رغم أن الأزمة السياسية ليست طارئا في المشهد اللبناني منذ اتفاق الطائف ونشأة نظام المحاصصة الطائفية، لكن أن تكون الجماعة الشيعية شريك في صناعة القرار ومن ثمة مصادرة له، فذلك اخذ الدولة إلى حالة العجز ودفع العلاقات بين لبنان والشركاء الإقليميين والدوليين إلى طريق مسدود. وتأتي الذكرى الـ78 لاستقلال لبنان باهتة على كافة الأصعدة فيما يئن أكثر من 40 بالمئة من اللبنانيين تحت خط الفقر وفي الوقت الذي هوت فيه العملة الوطنية بنحو 90 بالمئة من قيمتها. كما تحل هذه الذكرى في ظل قطيعة دبلوماسية خليجية للبنان بسبب تصريحات قرداحي التي يبدو أنها قطعت آخر خيط رفيع مع دول الخليج التي تحدثت مرارا تلميحا أو تصريحا عن الشروخ العميقة التي أحدثها حزب الله المصنف في عدد منها "تنظيما إرهابيا". ولا يبدو أن الأزمة الدبلوماسية الأخيرة سائرة إلى حل قريب حتى لو اعتذر قرداحي أو تنحى من منصبه طوعا لنزع فتيل التوتر، فالأزمة أعمق بكثير من مجرد تصريح وهي نتاج تراكمات لم يعد من الممكن خليجيا السكوت عنها وكانت تحتاج إلى قرار "رادع" ليس عقابا للشعب اللبناني بقدر ما هو رسالة أو تحذيرا للدولة اللبنانية التي لم تتحرك في مواجهة الضرر الذي ألحقه حزب الله الشريك في منظومة الحكم. وكشفت البحرين والكويت والسعودية عن تورط حزب الله في عمليات وصفتها بالإرهابية أو ارتباط جماعات أو أفراد من مواطنيها من الطائفة الشيعية بالجماعة أو بالحرس الثوري الإيراني. كما أشارت الرياض إلى مشاركة مقاتلين أو خبراء من حزب الله في الحرب اليمنية دعما للمتمردين الحوثيين المدعومين من إيران. وكانت أوضح تلك العمليات تدريب كوادر من الحزب للمقاتلين الحوثيين على إطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيرة باتجاه أهداف مدنية واقتصادية في المملكة بالإضافة إلى تدخلات في سوريا والعراق. ومن الأنشطة الإرهابية والإجرامية التي أشارت لها السعودية محاولة إغراق المملكة بالمخدرات من خلال تهريبها في شحنات فواكه كان آخرها تلك التي تم الكشف عنها في واردات من الرمان اللبناني. ويعتقد أن للحزب صلة قوية في تلك العمليات، بينما لم تفعل الدولة اللبنانية من جهتها ما يكبح تلك الأنشطة الإجرامية. وكان وزير خارجية البحرين عبداللطيف الزياني قد قال مؤخرا في حديثه خلال منتدى حوار المنامة للأمن المنعقد في البحرين، إن مستقبل العلاقات بين الطرفين يتوقف على ما إذا كان بإمكان "حزب الله" تغيير سلوكه. وقال الزياني إن على لبنان إثبات أن حزب الله يمكنه "تغيير سلوكه" لرأب الصدع مع دول الخليج العربي، مضيفا أن "المشكلة داخل لبنان، وليس بإمكاننا دعم هذه العملية ما لم يغير "حزب الله سلوكه"". ولفت إلى أن "الأمر تحد كبير للبنانيين حتى يراجعوا سياساتهم مع حزب الله ومحاولة إيجاد طرق لتطبيق القرارات على أرض الواقع"، مضيفا "رأينا حزب الله يهدد السعوديين". وقال الزياني "يمكننا تقديم الدعم ومحاولة إيجاد حلول في المستقبل، لكن ذلك بعدما يتبين أن حزب الله يمكن أن يغير سلوكه". وذكرت السعودية أن الإجراءات التي اتخذتها ضد لبنان في الشهر الماضي، والتي تشمل حظرا على الواردات، لم تكن ردا على تصريحات الوزير فحسب وإنما لإبداء عدم الارتياح بشأن سيطرة حزب الله على السياسة في لبنان. ورد فعل دول الخليج على تلك الممارسات لم يكن بمعزل عن تحرك دولي يراد منه كبح أنشطة تصفها قوى غربية بأنها إرهابية، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن إيران تحرك أذرعها لزعزعة استقرار المنطقة ومن هنا كانت الالتفاتة الدولية لمنظومة الحكم المتهمة بالفساد وإلى دور الحزب الشيعي ومن خلفه طهران في أزمة لبنان. ويأتي إحياء لبنان للذكرى الـ78 للاستقلال بينما تفاقمت الأزمة المالية التي وصفها البنك الدولي بأنها واحدة من أسوأ حالات الركود في التاريخ الحديث، بسبب الجمود السياسي والخلاف حول التحقيق في انفجار مرفأ بيروت الذي وقع العام الماضي وأودى بحياة أكثر من 200 شخص. وبسبب القلق من تزايد نفوذ حزب الله، حجبت دول الخليج، المانح التقليدي للمساعدات إلى لبنان وكذلك الجهات الدولية المانحة دعمها لهذا البلد الذي يعاني من أزمة اقتصادية عميقة. وقد أثارت أنشطة حزب الله ومصادرته لقرار الدولة اللبنانية مخاوف من أن تصل التمويلات اللازمة للدولة لحلحلة الأزمة، فالجهات المانحة تحجم عن الإفراج عن قروض وهبات تصل قيمتها إلى أكثر من 11 مليار دولار خشية أن تصل إلى أيدي الجماعة الشيعية لتمويل "أنشطة إرهابية" في سوريا والعراق واليمن. وتشترط الدول المانحة للإفراج عن تلك الأموال وجود سلطة قوية قادرة على إدارة شؤون الدولة وقادرة على تنفيذ إصلاحات قاسية، وهو أمر تعجز عنه الحكومة الحالية تماما كما عجزت عنه الحكومات السابقة. ولحزب الله شركات وشبكة عملاء في مؤسسات الدولة وقد سلطت العقوبات الأميركية الأخيرة على وزراء مرتبطين بالحزب الضوء على حجم الفساد وعن كيفية استفادة الجماعة الشيعية ماليا من المال العام اللبناني وذلك بحصولها عن طريق شبكة عملائها (من موظفين أو وزراء) على صفقات من القطاع العام. وبنى حزب الله امبراطورية ضخمة على طريقة الحرس الثوري الإيراني وهي التي جنت أموالا طائلة من صفقات مشبوهة ومن غسيل الأموال. وفي ظل هذا المشهد لم يعد من الممكن لا عربيا ولا دوليا تقديم دعم مالي لبنان بسبب مخاوف من أن يوظف الدعم في غير محله ناهيك عن شبكات الفساد الأخرى المتغلغلة في الدولة. وبمناسبة احتفال لبنان بالذكرى الـ78 لاستقلاله، تلقى الرئيس اللبناني ميشال عون اليوم الاثنين برقيات تهاني من قادة دول الخليج تبدو بروتوكولية أكثر منها بوادر لحلحلة الأزمة. ويبدو إحياء ذكر الاستقلال باهتا هذا العام، فاللبنانيون أصبحوا منشغلين أكثر بتأمين قوت يومهم في ظل الأزمة الطاحنة، بينما تختزل بعض الأرقام وضعا مفزعا هو نتيجة تداعيات أزمة اقتصادية انهارت معها قيمة الليرة بأكثر من 90 بالمئة وتجاوز معها معدل التضخم عتبة الـ400 بالمئة وارتفعت ثمن السلة الغذائية الأساسية بأكثر من ثلاثة إضعافها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019. كما يعاني البلد صاحب أعلى دين في العالم من شح في السيولة والنقد الأجنبي ونقصا في الدواء والغذاء ومعدل بطالة تجاوز عتبة الـ40 بالمئة، وفق أرقام البنك الدولي وبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة.
مشاركة :