بعد عام من الآن سوف يعقد فى مصر مؤتمر تغير المناخ المعروف باسم «كوب ٢٧ أو COP 27»، وهى مناسبة لكى يكون للدولة المصرية معرفة متوازنة فى واحدة من أهم قضايا العالم المعاصر، التى، رغم أهميتها البالغة، فإنها موضوع لخلافات عميقة بين الدول الكبرى فى العالم. فقد تبدو قضية المناخ العالمى وما حدث للكرة الأرضية، من ارتفاع حرارتها عبر أكثر من قرنين من الثورات الصناعية ومنتجاتها، بمثابة قضية علمية يتولاها العلماء للبحث فيها والتيقن من نتائجها. وقد تبدو القضية أيضا، باعتبارها جزءا من عملية «العولمة» الجارية فى العالم، حيث باتت قضايا مختلفة، بما فيها المتعلقة بالبيئة، ذات طابع يمس العالم أجمع، تماما كما جرى، على مدى العامين الماضيين، مع «كوفيد- ١٩» الذى لم يترك ركنا من أركان العالم لم يطرقه. لكن القضية، بأبعادها العلمية والبيئية، تبدو محسومة فى تأكيدات العلم على خطورة التطورات المناخية على الدول، بما فيها من حرائق وأعاصير وفيضانات وحتى الغرق لبعض الدول/ الجزر فى المحيطات، وفيما تأتى به من تأثيرات على صحة الإنسان بطريقة مباشرة نتيجة الحرارة والجفاف، وبطريقة غير مباشرة بنتائجها السلبية على موارد الغذاء بصفة خاصة. لكن على مدى العقود الثلاثة الأخيرة أخذت القضية أبعادا سياسية تدور حول تحمل مسؤولية أزمة المناخ وما تسببه من أضرار ناتجة عن الانبعاثات الكربونية من الصناعات المتعددة. وبات هناك اتجاه من قبل الدول الصناعية المتقدمة إلى وضع أعباء الأزمة على الدول المنتجة للطاقة الأحفورية، وبشكل متزايد فى الإعلام العالمى، وفى المجتمع المدنى الغربى، وفى البرلمانات الغربية المختلفة، تلقى عبء الأزمة على الدول العربية المنتجة للنفط، وبالذات تلك الواقعة فى الخليج العربى. .. ويحدث ذلك رغم الإثبات الواقع فى المؤتمر، عبر مراحله المختلفة، وهو أن ثلاث دول فقط، هى الصين والولايات المتحدة والهند، مضافا لها عدد من الدول الصناعية الأخرى تتحمل هذه المسؤولية فى ٥٣٪ من مجموع أطنان الكربون الملوث للبيئة العالمية، حيث نصيب الأولى ٢٧٪ و٩٫٨ مليار طن من الكربون، والثانية ١٥٪ و٥٫٣ مليار طن، والثالثة ٦٫٨٪ و٢٫٥ مليار طن. نقل المسؤولية إلى الدول المنتجة للنفط فى عمومها فيه الكثير من التدليس، لأنه يستند إلى العرض العالمى للنفط، ويغفل تماما جانب الطلب الذى تشكله الدول المصنعة لصناعات ملوثة للبيئة، وهى التى استندت إلى أكثر أنواع الطاقة تلوثا، وهو الفحم على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، خاصة مع إنتاج وسائل المواصلات المختلفة من سفن إلى سيارات إلى طائرات إلى أشكال مختلفة من المبيدات التى تلوث الزراعة وتضر بالإنسان. الفرية هنا قائمة على عدد من الحقائق التى يجرى تجاهلها أو تجاوزها دونما لا برهان ولا دليل، وفيها من الغرض كثير من المرض العضال. أولاها أنه رغم وجود نسبة مرموقة من إنتاج النفط والغاز فى العالم فى منطقة الدول العربية والخليج خاصة، إلا أن النسبة الأكبر من الإنتاج العالمى تقع فى مناطق بعيدة، حيث إن كلا من الولايات المتحدة وروسيا تقعان فى مقدمة الدول المنتجة عالميا، وإذا أضيفت لهما المكسيك وكندا وغيرهما من دول العالم، فإن المسؤولية تصير عالمية بجدارة. وثانيتها أن الحقيقة الماثلة بوضوح هى أنه منذ عام ١٧٥٠ ميلادية وحتى عام ٢٠١٩ فإن الانبعاثات الكربونية التى استقرت فى البيئة العالمية تتحمل منها أوروبا ٣٢٫٦٪، وآسيا ٣١٫٥٪، وأمريكا الشمالية ٢٩٫٢٪، وإفريقيا ٢٫٩٪، وأمريكا الجنوبية ٢٫٦٪، وما تبقى منها هو مسؤولية بقية العالم، بما فيه الدول العربية المنتجة للنفط والغاز. وثالثتها أن مسؤولية الانبعاثات ليست واقعة فقط على عاتق الدول المنتجة للنفط، وإنما هى واقعة أيضا على أشكال مختلفة من الطاقة، وعندما قامت البرازيل بالاعتماد على أشكال من الطاقة العضوية فإن آثارها على المناخ، وعلى تصحر غابات الأمازون لم يكن أقل منه فى مناطق أخرى. والواقع أن اعتماد العديد من الدول على الفحم لتوليد الطاقة، وهو الأكثر دفعا للتلوث مثل الصين وحتى الولايات المتحدة ودول أخرى فى أوروبا، دفع المؤتمرين فى جلاسجو إلى وضع سقف للتخلص من الفحم كلية كمصدر للطاقة. وفى مصر، شرم الشيخ، حيث ينعقد المؤتمر القادم، لابد من حساب إلى أين ذهبت هذه التوصية فى التطبيق. رابعتها أن الدول العربية المنتجة للنفط لا يمكنها أن تقع فى نطاق التراكم الحالى للكربون فى المناخ العالمى، نظرا لأنها لم تدخل عمليات التصنيع إلا فى العقود الأخيرة من القرن العشرين، وعندما دخلت فيها، فإنها صاحبتها، خاصة فى دولة الإمارات العربية المتحدة، بتقييد نسب الانبعاثات من ناحية، والسير قدما فى مجالات الطاقة المتجددة غير الضارة بالبيئة. وخامستها أن دولا عربية التزمت بالتوصل إلى صفر انبعاثات كربونية حرارية، وأعلنت السعودية عام ٢٠٦٠ سقفا لها، بينما كل من الإمارات والبحرين أعلنتا عن عام ٢٠٥٠. وأكثر من هذا فإن دولا عربية التزمت بالبحث العلمى فى مجالات نزع الكربون عن الطاقة الأحفورية أو Decarbonization، وقامت دول أخرى، مثل مصر والإمارات والسعودية، بمحاولة رائدة بإنشاء مدن جديدة كنموذج للطاقة الشمسية النظيفة. سادستها، ولعل فى ذلك أهم التوجهات العربية التى جرى التعبير عنها فى مؤتمر جلاسجو أنه لا يمكن للعالم أن ينكر الدور الذى لعبته الدول العربية فى تنمية الاقتصاد العالمى خلال العقود الماضية، والطلب الملح على الدول العربية المنتجة للنفط أن تحافظ على توازن الاقتصاد العالمى ونموه، خاصة بعد تراجع أزمة الكورونا وبحث الاقتصاد العالمى عن النمو والطاقة، بينما تُلقى المسؤولية على هذه الدول ومطالبتها بتحجيم إنتاجها. مثل ذلك سوف يكون كارثيا بالنسبة للاقتصاد العالمى بعد الأزمة، لكن الحفاظ على البيئة العالمية سوف يتطلب اتخاذ خطوات شجاعة فى اتجاه وقف استخدام الفحم، والتراجع عن الصناعات المستهلكة للطاقة، والتوسع فى إتاحة التكنولوجيا الخضراء، والأهم مساعدة الدول النامية على التصنيع الملائم للبيئة من خلال صندوق دولى لتمويل عمليات التحول هذه. والحقيقة هى أن فكرة الصندوق ليست جديدة، فقد جرت التوصية بها من قبل، لكن وضعها موضع التطبيق استدعى طرح التوصية من جديد. وهنا تحديدا فإن التجربة المصرية، خلال السنوات الأخيرة، سوف تكون شهادة على تحولات كبرى تجرى فى الاقتصاد المصرى فى اتجاه الاقتصاد الأخضر والاستخدامات للطاقة النظيفة. دولة عربية أخرى باتت رائدة فى هذا المجال سواء من حيث تشجيع البحث العلمى أو من خلال الاستثمار داخلها وخارجها فى المجالات الصديقة للبيئة، وبقى على الدول الغربية والصناعية أن تقوم بدورها فى هذا المجال.
مشاركة :