من يُدقّق في الكلمة التي ألقاها رئيس الجمهورية ميشال عون، بمناسبة ذكرى الاستقلال، يُدرِك أنّ المشكلات المستعصية التي يعانيها لبنان هي إمّا من صناعة "حزب الله"، وإمّا من حلفائه، يتقدّمهم رئيس الجمهورية نفسه. وهذا ينطبق على المحاور الأربعة التي تضمّنتها كلمة عون، أي تعطيل الحكومة، أزمة العلاقات اللبنانية - الخليجية، السلطة القضائية، والأمن. ويعود تعطيل الحكومة إلى إصرار "حزب الله" على "قبع" المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار، بعدما جعل من تورّط هذا الحزب في هذه الجريمة احتمالاً لا بدّ من التحقيق فيه. وعليه، فإنّ مشكلة "حزب الله" مع المحقق العدلي، تتجاوز مسألة النقاش حول صلاحياته في ملاحقة الرؤساء والوزراء، وتتصل مباشرة بقرار اتّخذه البيطار في التعمّق بدور للحزب في الجريمة. وهذا المسار التحقيقي لا يمكن إقفاله إلّا بتغيير المحقق العدلي، من خلال قرار حكومي يقضي بإسقاط إحالة ملف انفجار مرفأ بيروت على المجلس العدلي، ما يضعه حكماً في عهدة "المحكمة العسكرية الدائمة" التي طالما أرضت قراراتها واتجاهاتها "حزب الله". إنّ المخرج المقترح، حالياً، لا يمكن أن يرضي الحزب، إذ إنّ سحب المسار التحقيقي الخاص بالرؤساء والوزراء الى مجلس النواب عبر آليات قانون "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء"، وإن كان يصعّب التحقيق في إمكان تورّط الحزب، إلّا أنّه لا ينسفه. إذاً، إنّ المحور الأوّل الذي تضمنته كلمة عون يرتبط ارتباطاً مباشراً بـ"حزب الله". ولأنّه كذلك، بدا لافتاً للانتباه أنّه، بعدما اتّسم العرض بالوضوح، جاء تلمّس الحل ضعيفاً ومضعضعاً، بحيث أصبح رئيس الجمهورية مجرد طارح للأسئلة وليس صانعاً للأجوبة، في انعكاس لاستسلام الدولة لـ"الدويلة". وما يصح على المحور الأوّل يصح أكثر على المحور الثاني، أي الأزمة اللبنانية - الخليجية الراهنة. إنّ كلمة عون لهذه الجهة، جاءت بلا معنى وصيغت بعبارات خشبية لم تعد لها آذان مصغية. ويعرف عون قبل غيره أنّ المواقف التي أطلقها وزير الإعلام جورج قرداحي حول موضوع الحرب اليمنية والاعتداءات الحوثية ضد المملكة العربية السعودية، ليست سوى "القشّة التي قصمت ظهر البعير"، بعدما تأكّد للدول الخليجية أنّ "حزب الله" لا يكتفي بالمشاركة في كل ما يؤذيها، استراتيجياً واجتماعياً، فحسب، بل يحصّن نهجه العدواني بتوزير "المروّجين" لذلك، أيضاً. بالنسبة للرياض و"شقيقاتها"، فإنّ عون، في كلمته التي اعترف فيها بأضرار التدابير الخليجية على مصالح لبنان واللبنانيين، خرج عن الموضوع، عندما اعتبر أنّ الحل يكون بالحوار اللبناني - الخليجي، متجاهلاً الرسائل المباشرة وغير المباشرة التي وصلت إليه وإلى كبار المسؤولين اللبنانيين عن أنّ الأزمة الراهنة ليست أزمة علاقات بل هي أزمة لبنانية داخلية، إذ لم تعد هناك في لبنان أيّ دولة يمكن التحاور والتفاهم معها، بل هناك حزب مسلّح مصنّف إرهابياً يفرض إرادته على الجميع. وفي الموضوع القضائي الذي يقول "حزب الله" إنّ لديه مشكلة مع "المنظومة بأكملها"، أفاض عون، في "كلمته الأخيرة" (مبدئياً)، بمناسبة ذكرى الاستقلال، في الحديث عن تقصير قضائي في مكافحة الفساد والمفسدين، ولكنّ ما أصرّ عون على تجاهله، أنّ مجلس القضاء الأعلى، حين توصّل الى تشكيلات تراعي "الحدّ الأدنى" من الاستقلالية والفاعلية، تصدّى هو شخصياً لها، بحيث حال دون إصدار مرسوم هذه التشكيلات حماية لقضاة موالين له. ومن يعرف كيف يتحرّك القضاء، يُدرِك أنّ تجميد التشكيلات القضائية يدفع الأجهزة القضائية الى أن تكون في حالة تشبه تصريف الأعمال، حيث تنعدم الفاعلية، من جهة أولى وحصانة المرجعية، من جهة ثانية، وتحول دون وضع القاضي المناسب في المكان المناسب، من جهة ثالثة. وهذا يعني أنّ الشعارات "الإصلاحية" التي صاغها عون، في كلمته، لم تأتِ خاوية من أيّ معنى، فحسب، بل جاءت أيضاً لتلقي الضوء على العبء السلبي الذي كبّده عون للقضاء الذي بدل أن يتم التعاطي معه كسلطة تمّ التعاطي معه، كأداة. وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكر، فإنّ الفساد ينخر "البيت العوني". وهذا لا يعود الى شائعات بل يستند الى وقائع. ويسلّم عون مقاليد "بيته السياسي" الى صهره جبران باسيل الذي أنزلت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات بحقه، بسبب اقترافه عمليات فساد. وبعد أشهر طويلة من تأكيد باسيل أنّه سيقاضي الحكومة الأميركية لتبرئة ساحته، أطلق قبل أيّام، في حديث صحافي، موقفاً لافتاً أعلن فيه أنّه أحجم عن توكيل محامين للدفاع عنه، عازياً السبب، وهو الذي لم يكن يتنقّل إلا بطائرات خاصة يضعها بتصرفه "صديق"، لما سمّاه "الكلفة الباهظة". وعلى الرغم من عدم تحرّك باسيل لإظهار براءته من الفساد المثبت في وزارة الخزانة الأميركية، فإنّ عون الذي يعرب عن استيائه من عدم فاعلية القضاء اللبناني في محاسبة الفاسدين، عهد الى صهره مهمة "فحص" جميع من كان يتم ترشيحهم للتوزير في الحكومة الحالية. وفي موضوع الأمن، فإنّه يكفي للمراقب أن يتأمّل في مفارقة لافتة، فبعد أيّام على استعراض "حزب الله" قوته في عيون السيمان، وأسابيع على استعراضها في الطيونة، كانت الدولة تكتفي باستعراض قواتها الأمنية رمزياً، في ثكنة. إنّ شكوى عون في كلمته من أنّ نسبة أربعين في المئة من عهده شغلها الفراغ الحكومي، لم تثر "شفقة أحد"، لأنّ عون، منذ دخوله المعترك السياسي، بعد عودته من باريس، حوّل بالاتفاق مع "حزب الله"، الفراغ أداة عمل سياسي. ويدرك الجميع كيف حارب ثنائي "تفاهم مار مخايل" عهد الرئيس ميشال سليمان بالفراغ "كرمى لعيون الصهر"، وكيف حوّل هذا الثنائي الفراغ الطويل والمؤذي والمكلف الى أكبر ناخب لعون، وكيف يعمل، حالياً، على تحويله حجة لعدم الخروج من القصر الجمهوري، حين تنتهي ولايته الدستورية. إنّ الرئيس ميشال عون، في كلمة الاستقلال، شكا من الكارثة التي تسبّب بها هو و"حزب الله"، بحق دولة فقدت استقلالها نهائياً لمصلحة "الحرس الثوري الإيراني"، وفقدت مقوّمات الوجود لمصلحة أطماع مجموعة لا يبدو أنّ لنهمها الى السلطة حدوداً.
مشاركة :