عندما يصبح الاستلاب أسلوب حياة

  • 11/28/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تغيرات عديدة تشهدها بلادنا، وعادات مستحدثة نشاهدها في مجتمعنا، يعزوها البعض إلى العولمة والنظام العالمي الجديد، وثورة المعلومات وظهور الهواتف الذكية وتفشي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، التي تجعل مستخدمها يتنقل بين دول العالم بكبسة زر من جهاز صغير يحمله بيده. ورغم التسليم بما تحمله هذه الوسائل من فوائد عديدة إذا أحسنا استخدامها، مثل سهولة الوصول إلى مصادر العلم والمعرفة، وزيادة التواصل الاجتماعي وغيرها كثير، إلا أن الملاحظ للأسف هو أن السلبيات – في الوقت الحالي على الأقل- تفوق الإيجابيات في كثير من الأحيان، حيث بدأت تطفو على السطح في الفترة الأخيرة ظواهر لم نعهدها من قبل، وبرزت تصرفات غريبة على أسلوب التربية الذي تعودنا عليه. لم يعد غريبا أن تفاجأ في مكان عام ببعض الشباب الذين يرتدون ثيابا غير مألوفة، ويتصرفون بطريقة منافية لعادات وتقاليد مجتمعنا، أو يتحدثون في ملتقى بلغة غير العربية رغم أن الحضور كافة سعوديون، إلى غير ذلك من التصرفات التي تتعارض مع هويتنا وتهمش ثقافتنا إن استمرت الحال بذلك الوضع. والأمر المؤسف أن تلك التجاوزات تجد من يدافعون عنها بذرائع واهية، مثل الحريات الشخصية، ومسايرة العالم من حولنا، واللحاق بعوالم الحضارة، وغير ذلك. هنا أتساءل؛ ما هو وجه الحضارة في ارتداء تلك الملابس، وهل نكون متخلفين إذا حافظنا على هويتنا؟ وهل مثل هذه التصرفات ترمز إلى التطور؟ وأين قيمة الحرية في السماح للبعض بالإساءة إلى مشاعر الآخرين؟. التفسير الوحيد الذي أجده هو أن بعض شبابنا يعانون من استلاب ثقافي وحضاري. وهنا ألفت إلى أن ما أقوله ليس دعوة للجمود والانكفاء، أو الانزواء عن المشهد الثقافي العالمي، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يؤثر في محيطه ويتأثر به، لكن التأثر الإيجابي بالآخرين يكون عن طريق تقليدهم في أفضل ما لديهم، فالغربيون لديهم كثير من الجوانب المشرقة التي يمكن- بل يجب- على شبابنا أن يأخذوها عنهم، مثل الميل إلى العلم والتطور التقني والاهتمام بالبحوث العلمية. أما تقليدهم في سلوكياتهم المعيشية وتصرفاتهم الشخصية أو نوع ملابسهم فهذا مما لا يضيف لمجتمعنا شيئا. ومما يثير التعجب أكثر أن ظاهرة الانبهار المبالغ فيه بالآخرين، ليست مقصورة على الشباب وحدهم، بل يشاركهم فيها مثقفون ومتعلمون، والدليل على ذلك أن بعض كتَّاب الرأي في الصحف ومواقع الإنترنت، وحتى بعض المؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي يستشهدون بأقوال عادية وردت عن مثقفين غربيين، فتجد أحدهم يشير إلى جملة وردت عن أفلاطون مثلا أو سارتر أو جان جاك روسو، وكأنه بذلك يقدم دليلا على أنه مثقف أو مطّلع بمجرد الإشارة إلى هؤلاء. والمدهش أيضا هو أن كثيرا من تلك الجمل التي يقتبسونها هي كلام مرسل لا يحمل عمقا متفردا أو فكرة جديدة، بل مجرد آراء عادية نجد في تراثنا الإسلامي والعربي ما يفوقها في المعنى ويتجاوزها في العمق والدلالة، وبالتالي يكون وقعها أكبر وتأثيرها أشد. وحتى لا يسارع بعضهم إلى اتهامي بالدعوة للانعزال، أعيد القول إنه لا بأس من أخذ المفيد الذي يحقق مصالحنا من أي مصدر، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، لكن مجرد التباهي بتقليد الآخرين والانبهار بثقافتهم ومحاولة إسقاطها بما يوهم التقليل من ثقافتنا، هو من الإحساس بالنقص وعقدة الدونية. ما عنيته هو ضرورة الموازنة بين حاجتنا للنهل من معارف الآخرين وفي الوقت ذاته، الحفاظ على ما لدينا من أوراق القوة وعناصر التميز، والتصدي لمحاولات التغريب، والمحافظة على هوية المجتمع، وهذه المهمة ليست حصرا على فئة معينة، بل هي في الأساس مهمة الأسرة لأنها نواة المجتمع، وذلك بتعزيز مشاعر الانتماء للأمة، وعلى المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام دور لا يقل أهمية عما سبق، بتشجيع الانفتاح المحسوب الذي لا يهدد نسيجنا الاجتماعي. بطبيعة الحال لسنا ملائكة ولا ندعي الكمال، لكننا في المقابل لسنا فارغي المحتوى والوفاض، ولدينا مكامن قوة ونقاط ضعف، مثلنا مثل الآخرين، ويجب أن ندر ك بأن تغيير هوية وثقافة المجتمع هو إحدى وسائل الاستعمار للدول، ولنا أبلغ العبر فيما حدث بكثير من المجتمعات التي تفككت بعد أن أهملت تحصين شبابها وربطه بماضيه وتراثه، وتحولت إلى حقول تجارب تتلقى إفرازات الآخرين وإنتاجهم دون أن تكون لها القدرة على الاختيار والتمييز.

مشاركة :