محدثي كان يقود السيارة بنا في الطريق من العاصمة الأردنية، عمّان، إلى مدينة الزرقاء. تجنبا لأزمة غير معقولة لا مواعيد لها فانتهج طريقا بديلا نحو مدينة الرصيفة المتاخمة للزرقاء. كان طوال الطريق يتحدث عن نشاطه الفيسبوكي المحموم كمعارض لكل سياسات الدولة ويؤكد لي في كل منعطف طريق أو منعطف حديث أن الدولة متخمة بالفساد ولا حل إلا دولة القانون. في الطريق نفسه، كان يتجاوز كل إشارة ضوئية حمراء، معلقا بما يعتقد أنها طرافة بقوله: "مش حمرا كثير"! التجاوزات المجنونة التي ارتكبها في القيادة تكفي لتعبئة دفتر مخالفات، لكنه بقي مصرا أن الدولة لن ينقذها إلا "تفعيل الدستور والقوانين" التي يجب أن تكون فوق الجميع! على ما يبدو حينها فإن القوانين لم تكن فوقه ربما بسبب سرعته الزائدة التي فاقت سرعة القوانين فتعرضت للدهس ولم يبق منها إلا الثرثرة. الطريق من عمّان "المكتظة" بالازدحامات والتحويلات المرورية والمطاعم الكثيرة إلى الزرقاء عبر الرصيفة أيضا هي انتقال زمني مذهل بين عالمين في دولة واحدة. في زيارتي للأردن، تتكرر المشاهد التي أعمل على تخزينها بكل ما فيها من فانتازيا تتضخم كل مرة. في الصيف الماضي، وعلى حافة نهاية عمل اللجنة التي شكلها الملك لتضع خارطة طريق إصلاح سياسي سمعت كل ما يمكن سماعه من تفاصيل تقنية تحاول "بالغصب" خلق حياة حزبية سياسية تفضي بعد سنوات إلى حكومات برلمانية! كانت التفاصيل مغرقة بذاتها وهي تكشف صراع البقاء بين قوى ما تبقى من الدولة، كل طرف يريد تعظيم حضوره في مشروع الدولة القادم، أيضا كنت أذهب إلى مدينة الزرقاء عبر ثلاث طرق بالتناوب، طريق الأتوستراد الذي لا يحمل من مفهوم الأتوستراد شيئا، والمتخم بالتحويلات والأعمال الإنشائية غير المنطقية، وطريق الرصيفة حيث الدخول بها يجعلك تتفهم حالة "أليس" وهي تدخل حفرة عالم العجائب، و طريق خلفي تمت تسميته شعبيا بطريق "المية" لأن السرعة فيه 100 كيلومتر، تم إنشاؤه بمنحة من دولة الإمارات العربية المتحدة والصحراء تحفه من الجانبين على كل امتداده المريح. أنتهي مثلا من عشاء يستضيفني به مسؤولون في مطاعم عمّان، الفاتورة عادية ومنطقية، لكن مقارنتها براتب موظف حكومي بيروقراطي تجعل راتب الموظف خارج حدود المنطق، لا الفاتورة. أقرر زيارة أمي "في الزرقاء" فآخذ طريق حفرة أليس في بلاد العجائب، وأتساءل عن ذلك الذي أنبته الإسفلت فجأة أمامي وقد قرر قطع الشارع من مكان غير مخصص للمشاة، كأنه مشروع انتحاري بداعي القرف، هل يعلم الأخ المواطن الذي يتشارك مع مضيفي الذي دعاني للعشاء الرقم الوطني كمواطن، أن هنالك لجنة كاملة قررها الملك نفسه تعمل على خلق حياة حزبية له؟ التجلي الوحيد للمواطنة في الأردن، هو ذلك الرقم الوطني المطبوع على بطاقة الأحوال المدنية ولا يتجاوزها، باقي ما تبقى من مفهوم المواطنة خاضع "للرقابة والتفتيش" وغالبا ما يصبح الرقم باهتا في تفاصيل المعيشة اليومية. يريد الملك خلق حياة حزبية في المشهد السياسي العام، حياة حزبية تمثل ثلاثة أو أربعة تيارات سياسية "وهذا سمعته منه شخصيا"، رغبة الملك تحولت إلى لجنة ملكية هائلة العدد والتنوع لتترجمها إلى مخرجات ما بصياغة كافية تتلقفها الحكومة لتحولها إلى مشاريع قوانين أو مقترحات تعديل تشمل الدستور نفسه. في المخرجات، لم تكن هناك تفاصيل عن مجلس أمني سياسي يترأسه الملك يعطيه مزيدا من صلاحيات ، لكن المشروع يخرج من الحكومة إلى البرلمان يحمل تعديلات دستورية تتضمن مجلسا جديدا ولأول مرة، بتقديري رغبة الملك نفسها تصطدم بتلك التعديلات، التبرير الرسمي "واقعي" ولكن خارج العمق الديمقراطي: التعديلات والمجلس ضمانة لحماية الدولة من أي حكومة منتخبة متطرفة. ما يشبه الفيتو بيد المجلس الذي يرأسه الملك! هذا كله نقاش وسجال محموم يدور في الأردن، وأتذكر كل الطرق التي تخرج بنا من العاصمة الأردنية إلى المدن الأخرى، وأستحضر ذلك الذي يقطع الشارع بعد أن أنبته الإسفلت فجأة، وأستذكر موظف الدائرة الحكومية العابس في وجه المراجعين، ونهرني لأني "التزمت بالدور". أعيد فكرة الوعي الجمعي الممسوخ والمشوه والذي تم تزويره برعايات رسمية طوال سنوات، بدءا من التعليم وليس انتهاء بحالة ثقافية "جوفاء" ورغم ذلك، يتحدث السادة في عمّان عن "هوية جامعة"! الأردن، لعبة كلمات غير متقاطعة يحاول حلها أفقيا نخبة السياسيين، أما العمودي فليس أكثر من انسياب عبثي للكلمات وسقوط حر للمعاني. ما زلت في الأردن، أبحث عن الكلمات المفتاحية لحل اللعبة. الحرة.
مشاركة :