شهر زاد.. تحكي لتصنع الحياة - نجوى هاشم

  • 11/10/2015
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

في أوكرانيا وبريطانيا والهند توجد مكتبات تُدعى مكتبة البشر حيث بإمكانك أن تستأجر أوقاتاً لبشر عاديين بدلا ًمن الكتب وتستمع لقصص حياتهم ومعاناتهم أو تستمع لخبراتهم وتجاربهم في الحياة.. وهنا تدفع لهم مقابل الاستماع.. إن لم تكن راغباً في القراءة.. أو باحثاً عن أنماط مختلفة من تجارب الآخرين وقصصهم في الحياة.. لتتعلم منها.. أو لتكسر بها حاجز تجاربك والتي لاتنتمي إليها.. ولا أعرف هل عُممت هذه الخدمة في دول أخرى أم ظلت محدودة في الدول التي ذكرتها.. والسؤال هو من المستفيد أكثر من هذه الخدمة المستمع بمقابل أم المتحدث الرابح..؟ وقبل الإجابة تذكرت أننا هنا نمارس العكس.. فقد يرميك حظك في طائرة أو مطار منتظراً، أو مكان ما في الأرض وتجد بجانبك شخصا يتسلط عليك طوال الوقت أو الرحلة والكارثة لو كانت طويلة.. شخصا لاتعرفه ولايعرفك ولكن يفتح معك كل أنواع الحديث ويتنقل من موضوع لآخر وكأنه يسابق الزمن ويخاف أن تغادر قبل أن يكمل كل ما لديه.. يحكي لك تاريخ حياته وأسرته ومن حوله.. وأنت لاحول لك ولا قوة.. ولو حاولت أن تقرأ أو تنام أو تنشغل بصمتك وترتكن إلى لحظة هدوء ستجده يقول لك.. النوم قاعد ومقدور عليه وستنام في بيتك.. وسيفتح مواضيع أخرى.. ولأننا في النهاية وبالذات دوناً عن كل أمور الحياة مؤدبون وخجولون فلن تجرؤ أن تقول له: لقد أزعجتني.. وأريد أن أصمت أو أنام.. لأنّ ذلك يدخل في العيب وبالذات لو كانت سيدة كبيرة أو رجلا كبيرا.. وفي كل مرة حاول أن تنام قبل أن يهاجمك من بجانبك وبالذات في الطائرة.. لماذا؟ هل لأننا تشبعنا من الكلام؟ هل لأننا حكينا واستمعنا أكثر مما يجب؟ هل لأننا شعب حكاء بطبعه؟ ولا أقصد شعبنا بالتحديد ولكن الشعب العربي.. أبو الحكاية.. ومخترع ألف ليلة وليلة.. وشهرزاد التي ظلت تحكي على مدى هذه الليالي ولم تنته حكاياتها.. ولم تمت.. ولم يرتو منها شهريار.. بل أجّل مصير شهرزاد لارتباطه بحكاياتها.. التي صنعت الليالي.. وأشعلت بها خيال شهريار فأحبّ الليل.. الذي تتسرب منه شهر زاد.. وتفتح له فيه بياض الحكاية.. وتلك اللحظات التي لاتفنى من خلود الكلام.. الذي لا يُنسى ولن ينسى.. لقد صنعت شهرزاد الحكاية ولم تطو صفحاتها لأنها كانت مفطورة على الحياة وعلى المقاومة.. وعلى البحث عن الغد.. الذي سيأتي.. ومن الحكاية ومن الكلام تغلغلت شهزاد.. هناك في قلب شهريار.. وسكنت ذاكرته وقبلها سكنت التاريخ.. وزمن لايغيب هو زمن الحكاية الثابت.. الذي لايقبل الغياب أو التحول..! بالحكاية صنعت شهرزاد التاريخ الحكوي.. وفي سوري قبل سقوطها كان هناك مقهى اسمه مقهى النافورة.. يحكي فيه شخص حكايات والناس تستمع ويدفع له.. ولن يأتي أحد إن لم يكن شغوفاً بفكرة الحكي.. وهو يحكي قصصا وحكايات قديمة بطريقة الحكواتي الملفتة والآسرة.. هو يأخذ مقابل أن تستمع له.. وهي نفس فكرة أوكرانيا وإن كانت تلك الفكرة تعتمد على الفردية وليس الجماعية.. فشخص يستمع لشخص واحد ويدفع له.. وأيضاً من الممكن أن يحكي له حكاية شخصية ويوظفها بطريقة ملفتة من أجل أن يبهر من يدفع له..! هي الحكاية مستمع ومتحدث.. أو منصت وحكاء.. ولكن الفرق الحالي بيننا وبينهم أنهم يدفعون ليتكلم شخص ويحكي ونحن نستمع ببلاش.. وأحياناً نتمنى أن ندفع فقط مقابل أن نشتري صمت المتحدث.. نحن سندفع ليصمت أحدهم وهم يدفعون ليتحدث أحدهم وفي الزمن المقرر والمتفق عليه.. ونحن أيضاً لانطلب أن يتحدث أحدهم فهو يتطوع ليتحدث بتعبيره ومصطلحاته وتفكيره وعالمه الذي قد يختلف عن عالمك.. بل قد يثير حولك الإزعاج.. يتحدث دون طلب وبما يريد لا كما تريد.. المشكلة أنك مضطر قد تستمع له بحديث غير متجانس الأوتار.. وبتلقائية لاترفضها ولكن لست في مزاج يخولك بالاستماع..! هي الحكاية بعضهم يدفع ليسمعها بشروط مقننة وفردية المكان.. وبعضهم يدفع ليهرب منها ومن حصارها.. فالحكاية لدينا بدأت من تلك اللحظة التي دافعت بها شهرزاد عن حياتها.. وكأنها حكايات الحياة ضد الموت.. وضد الهروب من المجهول.. ولكنها تحولت إلى حكايات فارغة ولاقيمة لها وغير مطلوبة وأحياناً ضد الحق في أن تكون وحيداً أو تتمتع بخصوصية.. مع اختلاف اللغة من الفارهة التي كانت شهرزاد تُغرق فيها شهريار كل ليلة وتجعله رهيناً لليلة أخرى والتي كان يبحث عنها شهريار وقادته إلى محراب الحب، وتساقطت معها أوسمة دفاعه على طريق حكايات كل ليلة.. ولغة مختلفة تُفرض عليك دون أن تجرؤ على الهروب منها.. ولكن قد تدفع حتى لاتستمع لها..!

مشاركة :