كانت أصداء كتابه الأول «كنت طفلًا قبطيا في المنيا» مذهلة بكل ما تعنيه الكلمة؛ قوبل الكتاب بحفاوة كبيرة ونال صاحبه عنه جائزة أحسن كتاب في الدورة السابقة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في يونيو الماضي. مينا عادل جيد؛ صوت إبداعي مبشر وواعد ويخطو خطواته الأولى بثقة وثبات.. في هذا الحوار المكثف لـ «الاتحاد» إضاءات كاشفة على عمله الروائي الأحدث «بيت المساكين» الذي احتفل بإطلاقه وتوقيع النسخة الأولى منه مساء الخميس الماضي. * في عملك الثالث؛ وروايتك الأولى، هل تستكمل مسارك الفريد في البحث تحت طبقات الوعي والمعرفة لكن هذه المرة «روائيًّا» وليس «أنثروبولوجيًّا»؟ «بيت المساكين»؛ الصادرة قبل أيام قليلة عن دار الكرمة بالقاهرة، رواية تدور أحداثها في مولد قبطي للسيدة العذراء في الصعيد، في الثمانينات تقريبًا، أجواء الرواية مستوحاة من تجربة أسرتي بمولد دير العذراء مريم بجبل الطير في المنيا الذي زارته العائلة المقدسة من ضمن محطات رحلة هروبها إلى مصر، والمولد كان بالنسبة لأسرتي بمثابة حج أو مصيف سنوي مقدس، لدرجة أن جدي لأبي كان يدخر من دخله طوال شهور السنة كلها لكي ينفق ما أدخره طوال سنة في سبعة أيام فقط نقيمها في المولد، وأنا حضرت هذه الأيام في طفولتي وتعلقت بها للغاية، ومولد العذراء في المنيا هو أكبر الموالد القبطية في مصر، وفي تقديري الشخصي إذا كان المسرح هو أبو الفنون في حضارات أخرى، فإن «المولد هو أبو الفنون في مصر». غلاف رواية بيت المساكين غلاف رواية بيت المساكين * يبدو أن دوافع كتابة «كنت طفلًا قبطيا في المنيا» تقريبا هي ذاتها دوافع كتابة «بيت المساكين».. هل يمكن اعتبار ذلك صحيحًا بدرجة ما؟ نعم. لقد وعيتُ بقيمة وثراء تجربة طفولتي في مولد العذراء بعد أن بدأ اهتمامي الأنثروبولوجي، واطلاعي على كتب مهمة؛ مثل كتاب «الموالد والتصوف في مصر» لنيكولاس بيخمان، وغيرها من الكتب التي بها بحث ميداني وتحليل دقيق للممارسات الثقافية في الموالد.. ثم بعد قراءتي لرواية «أيام الإنسان السبعة» لعبد الحكيم قاسم، الفريدة من نوعها، اتخذت قرار كتابة الرواية، قلتُ لنفسي «أنا أيضًا لديّ ما أقوله عن الموالد في مصر». وجلست أكتب بدون خطة واضحة لسير الرواية أو شخصياتها أو حجمها أو لغتها، ولكني كنت أكاد أرى أجواءها، وأسمع أصوات الأسواق والبيوت والمدائح والتراتيل القديمة والوشامين، وأصحاب «المراجيح».. إلخ. ورأيتني وسط تلك الأجواء طفلًا يراقب، فحرصت على أن يكون الراوي طفلًا. * ما سر ولعك باتخاذ قناع الطفل في سردك عموما وسردك الروائي على وجه الخصوص؟ ببساطة؛ لأن هذا التكنيك يعجبني كثيرًا، عندما أقرأه في رواياتٍ عظيمة؛ مثل أعمال المغامرات لمارك توين، و«الحارس في حقل الشوفان» لسالنجر، و«صورة الفنان في شبابه» لجيمس جويس، و«آكيه.. سنوات الطفولة» للنيجيري وول سوينكا الحائز على نوبل... إلخ. هذا التكنيك يمكنني أيضًا من التواري خلفه، وقول كل ما أريد قوله بشجاعة؛ لأن الناس يتقبلون أي فعل أو قول من الأطفال الصغار، ولا يغضبون منهم بل يضحكون لهم! غلاف كنت طفلاً قبطياً غلاف كنت طفلاً قبطياً * من قضايا الشكل إلى محتوى الرواية أو سؤالها الفكري والثقافي... هل يمكن إدراجها ضمن منظومة الأعمال الروائية التي تقدم مراجعة إبداعية لإشكالية الهوية أو التباساتها وسط الصراعات الفكرية الدائرة في مصر بعد 2011؟ - نعم. يمكن قول ذلك تمامًا؛ فالرواية تطرح سؤال الهوية بشكل مُلحٌّ، وهي جانب من رحلتي الفكرية للتعرف على ذاتي وقد اكتشفت أنني.. أنا، وأنت وكلنا هويتنا شديدة التعقيد. نعم أنا اسمي «مينا»، وهو اسم أول ملك في مصر القديمة، ومن قام بتوحيدها، ولكن أهلي أطلقوا عليَّ هذا الاسم تيمنًا بقديس وشهيد مسيحي «مارمينا» كان أبوه يحتل مركزًا كبيرًا في الإمبراطورية الرومانية التي كانت تحتل مصر آنذاك. * في سعيك ورحلتك الجادة للبحث عن سؤال «الهوية».. كيف تغلبت على التباسات التناقض والتداخل التي يراها البعض أنها لا تحتمل التعايش أو المزج أو الانسجام؟ في رحلة البحث والمراجعة هذه، أيقنت حماقة فكرة استحضار تجربة فكرية كانت لها ظروف تاريخية من قارة أخرى، في زمن آخر، وناس آخرين، لتطبيقها على مجتمعٍ مخالف عنه تقريبًا تمامًا مثل مجتمعنا، إلى أن اهتديت إلى أنني إنسان مكوَّن ثقافيًا من رقائق حضارات فوق بعضها البعض، فأنا مصري مسيحي أتحدث العربية، وهي لغتي الأم، كما أن للحضارة الإسلامية تأثيرًا ما عليَّ بلا أدنى شك. مثلًا؛ راقبتُ أمي ووجدتها عندما نلح عليها في طلبٍ ما، تقول بعفوية «إن الله مع الصابرين»، وهي آية قرآنية، أمي تقولها باعتبارها مثلًا، أو حكمة، هويتنا شيء حقيقي شديد التعقيد، ولا يقبل سؤال الهوية الإجابات القصيرة السهلة الواضحة. بيت المساكين هي رواية فهمت من خلالها من أنا.
مشاركة :