تمثل بعض التجارب الأدبية والنقدية في مصر محل إجماع وثقة من المتابعين، لا من حيث منجزها فحسب بل ولاهتمامها بالعمل بعيدا عن ضوضاء الصراعات التي تشوب الساحة الأدبية، ومن هؤلاء الناقد والأكاديمي المصري حسين حمودة الذي كان لـ“العرب” معه هذا الحوار. القاهرة - وسط الجدل المستمر واللغط الذي لا يتوقف حول الجوائز الأدبية ونتائجها، هناك أسماء حين تقع عليها الأعين ضمن قوائم الفائزين بإحدى الجوائز، تكون هي ذاتها الجائزة، أو علامة الجودة للجائزة ومن قرروا منحها، مثلما كان الفوز تقديرا للفائز بها. الناقد الأدبي المصري والأكاديمي حسين حمودة من هؤلاء بإجماع الآراء، حيث أثار فوزه بجائزة الدولة التقديرية في الآداب بمصر أخيرا موجة عارمة من الغبطة والارتياح في وسط ثقافي قلما يجتمع على أحد. يرجع ذلك إلى رحلة العطاء الطويلة لأستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، على مدى 45 عاما، لم يتوقف خلالها عن الكتابة والإنتاج والإبداع، لكن هذا ليس السبب وحده لردود الأفعال الإيجابية الكبيرة على فوزه بالجائزة، فالرجل يتمتع بدماثة خلق نادرة، يصعب أن يقابل المرء مثلها داخل وسط يعج بمنتفخين يقدمون أنفسهم دوما باعتبارهم كبارا مستحقين، ينبغي أن يدور الكل في أفلاكهم، لكن حسين حمودة غير هؤلاء. جالس حمودة الأديب الراحل الحاصل على جائزة نوبل نجيب محفوظ طويلا، واستمع إليه وحاوره، وكتب عن أدبه كثيرا، وكان مما كتب دراسة بعنوان “في غياب الحديقة”، حول متصل الزمان/ المكان في روايات محفوظ، مع ذلك لم يتاجر باسم الأستاذ، أو تغذى عليه وانتفع منه. في زمن الالتباس، وتواري الأساتذة الحقيقيين من الطبيعي أن نلجأ بتساؤلاتنا الحائرة حول الكتابة والإبداع إلى من تبقوا من الكبار، موقنين أن ردودهم تضع علامات هادية، تنير الطريق، وتذلل الصعاب. ومن هؤلاء حسين حمودة الذي حاورته “العرب”. التجريب والتشويق صعود الرواية لا ينفي أبدا حضور الشعر على مستوى الإبداع فيه واستلهامه في فنون متعددة أدبية وغير أدبية عندما قلت للناقد حسين حمودة إن الجائزة هي التي فازت باسمك، رد في الحال بتواضع العلماء وخجل الكبار: “العفو.. العفو”، دون أن يخفي سعادته الكبيرة بحصوله عليها، ونشر على صفحته على موقع فيسبوك مقطعا من لقائه التلفزيوني الأخير مع الإعلامية المصرية منى الشاذلي، معلقا ببراءة طفل: “لعل ابنتي تفرح”. للطفل البريء، العالم الجليل، أسبابه الخاصة للسعادة بجائزة الدولة التقديرية، بخلاف أن تفرح ابنته، منها أن الجائزة تأتي من وزارة الثقافة المصرية، والمجلس الأعلى للثقافة، وبترشيح من مكتبة الإسكندرية وهي هيئة ثقافية محترمة، ومنها أيضا أنها قدمت له قدرا من الاطمئنان إلى أن الجهد الذي بذله عبر مسيرته الطويلة كان له تقديره، ولم يذهب هباءً. الجدل المعتاد الذي يدور دوما حول نتائج أي جائزة لم يدخل بالطبع اسم حسين حمودة في دوامته، لكن يبقى أن هذا الجدل بشكل عام يمثل ظاهرة، إذ تثور اعتراضات من جانب المتسابقين أنفسهم أحيانا أو داعميهم ومحبيهم في أحيان أخرى، فيما يشبه عمل روابط “الألتراس” في كرة القدم، وتتنوع الاتهامات وتمتد، من تسييس النتائج إلى شخصنتها ومراعاة أبعاد أخرى، غير القيمة الفنية للأعمال المتسابقة، فكيف يكون المرء متسابقا وحكما في الوقت ذاته؟ تصورت أن يشاركني الناقد حسين حمودة رؤيتي وحيرتي، لكنه طرح الأمر برؤية أعمق وأشمل، معتبرا أن الاختلاف حول الجوائز بعد إعلان نتائجها اختلاف مشهود ومعروف ومتكرر، لكن هناك تباينات بين ردود الفعل المتعددة، فاختلاف المبدعين حول عمل أو اسم هو اختلاف مفهوم، لأنه يتصل بتقييم عمل إبداعي ما أو مبدع ما، وهذا يتعلق بحكم القيمة حول الإبداع، وهو حكم غير متفق عليه وغير معياري، يمكن أن يختلف من شخص لآخر، ومن مُحكم لآخر، ومن لجنة تحكيم لأخرى. يقول حسين حمودة لـ”العرب”: “هناك ملاحظات يمكن توجيهها لأغلب الجوائز، من حيث درجة نزاهتها أو تجردها أو انحيازها أو عدم انحيازها، وحتى جائزة نوبل نفسها يمكن توجيه بعض الملاحظات حولها، مثل أنها تنطلق من مركزية أوروبية، وتهتم ببعض اللغات دون أخرى، أو تنحاز لآداب وثقافات دول دون أخرى، علاوة على ما أثير حولها بشأن بعض الانحيازات السياسية، وإن كانت هذه الملاحظات في غير محلها”. ويضيف الناقد المصري “المؤكد أن جائزة نوبل أغفلت عددا من المبدعين الذين كانوا يستحقون الحصول عليها”، ونقل عن الأستاذ نجيب محفوظ نفسه، إشارته في عدد من اللقاءات التي جمعتهما إلى أسماء بعض هؤلاء المبدعين، مثل نيكوس كازنتزاكس، وجراهام جرين، وتولستوي، “بوجه عام؛ فإن الجوائز يمكن أن تكون مفيدة ونزيهة، لكنها في بعض الحالات تحيد عن ذلك”. المسافة بين الإبداع والنقد في تزايد بمعنى أن هناك إنتاجا أدبيا كبيرا لا يجد ما يواكبه من متابعة نقدية تجبرنا قواعد الكتابة الصحفية أحيانا على أمور بعينها، فلا يمكنك أن تكتب عن فائز بجائزة أو تتحدث إليه دون أن تتوقف عند الجائزة ذاتها وجدل الجوائز بشكل عام، لكن في حضرة الأساتذة تبقى أمور أخرى هي الأهم. الأستاذ، الناقد الأكاديمي حسين حمودة، هو المشتبك دوما بقلمه مع واقع الأدب وقضاياه، من خلال موقعه الحالي رئيسا لتحرير مجلة “فصول”، وهي مجلة فصلية محكمة في النقد الأدبي، وتصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، أو عبر دراساته وكتبه على مدى رحلته، ومنها “من عيون القصة المصرية”، و”الرواية والمدينة.. نماذج من كتاب الستينيات في مصر”، و”ميادين الغضب.. قراءات في روايات مصرية”. طرحت سؤالي الحائر والأهم بالنسبة إلي، على الأقل، حول واقع الرواية المعاصر في وقت أصبح يضج بالهجوم على فن الرواية ذاته، قيمته وأهميته وجدواه، استنادا إلى، وبالقياس على، نماذج مما يصدر من روايات الآن، ليصبح الهجوم طعنا في تطبيقات وليس صادرا عن تنظير أصيل أو فكر جاد، وهذا لا ينفي ما يثيره واقع الرواية من تساؤلات. ومن أبرزها ما أثرته في حضرة الناقد الكبير حسين حمودة، ويتمثل في أنه أصبحت هناك تقنيات كثيرة مختلفة في الكتابة الروائية، تجنح إلى التجريب وتطبيق الأشكال الحداثية، مقابل التراجع الكبير في ما أعتبره أصل الرواية، وهو الحكاية، أو الحدوتة”. ويجعل هذا العمل الروائي يفقد جاذبيته ومتعته بالنسبة إلى القارئ العادي، مع أن المفترض وصول الإبداع إلى مختلف طبقات المتلقين، مع تفهم فوارق الوعي ودرجات التلقي، وضرورة ألا تقتصر الرواية على الحكاية، ويكون هناك دوما ما وراء الحكاية، والملاحظ أن كثيرا من الأعمال الفائزة بالجوائز تبالغ في إعلاء راية التجريب، مع تفتيت الحكاية أو غيابها. يعتبر الأكاديمي حسين حمودة أن السؤال حول الكيفيات التي تكتب بها الرواية “مهم وكبير ومتعدد ومتشعب الأبعاد”، لأنه يتصل بشكل الرواية، وهو شكل مرن جدا، قام تاريخيا على استيعاب أجناس تعبيرية متعددة، وتوجد اختلافات حول تعريف الشكل الروائي، وربما كان أفضل التعريفات أنها “شكل بلا شكل”. ويوضح في حديثه لـ”العرب” أن هذا كله نظر إليه بعض المبدعين على أنه يتيح لهم إمكانا للتجريب باستخدام تقنيات جديدة، وأحيانا غريبة، إلى حد ذهب ببعضهم إلى نوع من المغالاة في استخدام هذه التقنيات، لكن يبقى جوهر السرد أو الحقيقة الجوهرية أو القيمة الكبيرة في السرد الروائي بوجه عام هو الحكاية والتشويق بالطبع. ويقول حمودة “لعلنا نلاحظ مع حضور عدد كبير من الأعمال التي كانت مغالية في تجريبها أن هناك أعمالا أخرى حافظت على قيمة التشويق، وحتى بالنسبة لفوز تلك الروايات بالجوائز، فالحقيقة أننا نجد بجانبها روايات أخرى لازالت تهتم بالحكاية والتشويق”. إعادة ترتيب البيت فوزه حسين حمودة بجائزة الدولة التقديرية في الآداب بمصر أخيرا أثار موجة عارمة من الغبطة والارتياح أصبح النشر بالنسبة إلى المبدعين، كبارهم وصغارهم، أيسر الآن مما كان عليه الحال في أوقات سابقة، بفعل زيادة أعداد دور النشر، وفي المحصلة هناك إنتاج أدبي ضخم للغاية. يرى البعض في ذلك ثراءً وتنوعا، باعتبار أن الجيد سوف يطرد القبيح والسيء، لكن آخرين ينظرون إلى الأمر بسلبية، لما يؤدي إليه من خلط الأوراق والتشويش على الإبداع الحقيقي والأعمال الجيدة، بسبب كثرة المنتَج من الأدب، لكن أغلبه كغثاء السيل. تساؤل آخر حائر، أو قضية جدلية متجددة، أثارت داخلي الفضول كي أعرف موقف الأستاذ منها، واستغللت الموقف متسائلا عما إذا كان ذلك عبئا على النقد والنقاد، لأنهم لا يستطيعون ملاحقة كل هذا الإنتاج، أم أننا يمكن أن نهمس بكلمة عتاب في أذن النقاد لأنهم يتجهون إلى التركيز على الأعمال الناجحة أصلا أو الفائزة بجوائز، وعدم اكتشاف مبدعين جدد. يرد الناقد حمودة بالقول “هذا سؤال مهم جدا، يتصل بظواهر كبيرة حاضرة في أدبنا العربي وثقافتنا العربية، وأيضا في ثقافات وآداب متعددة، فهناك ظاهرة اتساع النتاج الأدبي، خصوصا الروائي، بحيث أصبحنا نجد أعمالا روائية جديدة تصدر كل يوم، ويضاف إلى هذا أن وسائط الاتصال الحديثة أتاحت فرصا واسعة للنشر”. ويذكر لـ”العرب” أنه يتصل بهذا ظاهرة أخرى مهمة، وهي تزايد المسافة بين الإبداع والنقد، بمعنى أن هناك إنتاجا أدبيا كبيرا لا يجد ما يواكبه من متابعة نقدية تقوم بعمليات “الغربلة” للتمييز بين ما هو جيد وما ليس جيدا. تنوع اتجاهات الأفكار ومشارب العقول محمود، لكن بعض القضايا أو الصراعات يبدو مفتعلا، أو لا لزوم له لكن لغياب النقد وعدم قدرته على المتابعة أسباب كثيرة، يوضحها حسين حمودة لـ”العرب”منها “عزلة النقد الأكاديمي داخل أسوار الجامعة أو داخل سجون المصطلحات، وعدم وجود إمكان للناقد المتفرغ، وأن المنابر النقدية ليست كافية للمتابعة، ولا المنابر الإعلامية أيضا، ومنها بالطبع عدم إشاعة الروح النقدية بوجه عام”. ومن الأسباب إلى الحلول ينتقل الناقد المصري، يقول “حل هذه المشكلات جميعا يتصل بحضور القراء أنفسهم، وبما يقومون به مع مرور الزمن من عملية تشبه نوعا من أنواع الانتخاب الطبيعي، فهذا الإنتاج الأدبي الكبير سوف يبقى منه ما يستحق البقاء، ويتوارى منه ما سوف يتوارى”. قضايا الثقافة والأدب، هي غالبا طويلة الأمد، لا تُحسم سريعا، ولا حتى في سنوات قصار، وهذا ليس عيبا أو غريبا، فتنوع اتجاهات الأفكار ومشارب العقول محمود، لكن بعض القضايا أو الصراعات يبدو مفتعلا، أو لا لزوم له، من هذا تلك المشاجرة الدائمة الممتدة بين الشعر والرواية، التي اشتعلت على إثر إطلاق الناقد الراحل جابر عصفور منذ حوالي ثلاثة عقود مقولة إن الزمن الحالي هو زمن الرواية، ليتجدد اشتعال المعركة من وقتها كل حين، بين فسطاطين متنافرين، يضم كل منهما شعراء وروائيين. في رأي الناقد حسين حمودة إن ذلك يعد تعبيرا عن ظاهرة لها جذور قديمة، أو على الأقل أقدم من توصيف جابر عصفور بنحو نصف قرن، فقد أثيرت مسألة الحضور الأكبر للرواية بالقياس إلى الشعر في أربعينيات القرن الماضي في مقالة شهيرة للأستاذ نجيب محفوظ عنوانها “الرواية شعر الدنيا الحديثة”، كتبها للرد على الأديب المصري الراحل محمود عباس العقاد الذي قلل من شأن الرواية. وأوضح أن الحضور الأكبر للرواية في الأدب الغربي عقب الثورة الصناعية، التي وفرت آلاتها الكثير من الوقت، وأتاحت فرصة للقراءة بقدر أكبر، فاقترن ما بعد الثورة الصناعية بانتشار النوع الروائي. ويختتم الناقد حسين حمودة حديثه لـ”العرب” قائلا “على أية حال صعود الرواية لا ينفي أبدا حضور الشعر على مستوى الإبداع فيه، وعلى مستوى استلهامه في فنون متعددة أدبية وغير أدبية، بما في ذلك فن السينما نفسه، والأمر كله هو نوع من إعادة ترتيب البيت، أو إعادة التراتب بين الأنواع الأدبية، وهذه ظاهر حاضرة في تاريخ الأدب الإنساني كله، حيث تظهر أنواع بدرجة أكبر من أنواع أخرى، وتتوالد أنواع من أنواع، وتتداخل الأنواع بوجه عام”.
مشاركة :