إيمان المومني لمهنة الكتابة الساخرة حسنات كثيرة أولها أن «رأسمالها» قليل فهي تحتاج «عقلاً نبيهاً» و«لساناً سليطاً»، والخسارة فيها معدومة، كما أن بضاعتها لا تكسد، وحرفتها لا تورث، وبالتالي تصبح الكتابة الساخرة هي الحرفة الوحيدة في العالم العربي التي لا تورث خلافاً لباقي المهن، بدءا «بالوزراء» وانتهاء «بالمراسلين» في الإدارات الحكومية. تتجاوز الكتابة الساخرة الخطوط الحمراء، حسب معايير دوائر «المواصفات» و«المقاييس»؛ فهي وليدة الشارع وتتحدث بلغة الشارع، لا تستحي من أحد ولا تجامل أحداً، رضي من رضي وغضب من غضب، ولأن الحقيقة «وقحة» و«صفيقة» و«واضحة» و«شاذة » في أرض النفاق، فإن «الرياء» يخشاها ويحاربها ويحاول «دفنها »تحت التراب. كل حرف تقترفه الكتابة الساخرة هو «قنبلة» موقوتة وكل كلمة قد ترسل أصحابها إلى حلاق الرؤوس المجاني الذي ينتظرهم على أحر من الجمر، في كل عبارة «كاتم» صوت وكل «فقرة» تكسر «فقرة» في الظهر، يؤدي الساخر دوره ويمضي كما تؤدي البلابل دورها: تغرد حتى تموت! يتميز الكتاب الساخرون بالكتابات المؤلمة والجميلة في الوقت نفسه، مثل الكاتب الشاعر والمسرحي محمد الماغوط الذي كانت كتاباته نابعة من المرارة، لم يعش بسلام مع أحد ولا حتى مع نفسه، لأن «المهزلة» كانت دائمة، فرغم سخريته من الثقافة والمثقفين كان الماغوط أحد أبرز رموز الثقافة العربية طوال عقود، وأبرز مثقفيها المشاغبين على مستوى اللغة والسياسة والمفاهيم، برع في استخدام مفردات جديدة وتوظيف المفارقة والحس الساخر بمهارة؛ لكي يبين مفارقات حياتنا الثقافية.. هجا الأوطان والعواصم والمدن والغرف والسجون والتاريخ والبشر جميعاً، وترك الماغوط مناقب فصيحة في معنى أن تكون الشتائم المتصلة للوطن نشيداً في المحبة التي لا تشبهها محبة أخرى. ويحضرني هنا هذا المشهد من مسرحية «كاسك يا وطن». غوار: في حدا بدو يضيّق لي خلقي ويكرّهني عيشتي، لأرحل عن وطني، ما بعرف مين هذا الحدا، من برّة من جوّة والله ما بعرف. بس مين ما كان يكون هذا الحدا، أنا ما بقدر أرحل عن الوطن أنا بدوخ بالطيارة يا أخي، ثم لنفرض إني أنا بعدت عن الوطن ورحلت عنه لبعيد، بس مشكلتي أنه الوطن ما بيبعد عني، بيضل عايش فيّ من جوّة وين بدي أهرب منه؟ وين؟ لذلك بدي ضلّ عايش فيه غصب عن اللي ما بدّه، طالما عم بقدر أحكي يلي بدي ياه مارح أيأس وبدي ضل أصرخ للغلط غلط بعينك، وبدّي أعمل ثورة بالبطحا، وأشرب كاسك ياوطني على رواق، بدي أشرب كاس عزك، ولسّه بدي أكتب اسم بلادي على الشمس اللي ما بتغيب. رحل الماغوط وهُجّر السوريون مشياً على أقدامهم ليعبروا الحدود إلى دول لم يكونوا ليصلوها بالطائرات، التي تسبب لهم الدوار والخوف، وبسبب البرد القارص وانخفاض درجات الحرارة، لجأوا للنوم والاحتماء داخل صناديق من الكرتون، كم هو مؤلم أن يتخيّل السوري أطراف الكرتونة نافذة بيته الجديد فيسدها جيداً بيديه العاريتين.. يا لهذا الوطن الذي تضاءل كثيراً ليصبح وطناً من كرتون. تُرى لو عاش الماغوط ليرى مايحصل الآن للسوريين هل سيعيد صياغة المشهد ويكتب اسم وطنه على كرتون قابل للكسر والبلل بدلا من كتابته على «الشمس اللي مابتغيب»؟! * أكاديمية وكاتبة
مشاركة :