المرأة الحديدية تدخل متحف التاريخ

  • 12/8/2021
  • 20:23
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ستختفي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وتذهب إلى عالم النسيان بداية من اليوم، بعد أن غادرت منصبها رسميا، وأحيلت للتقاعد عن سن 67 عاما، قضت 16 عاما منها على رأس السلطة في أقوى وأكبر دول أوروبا، بعد أن رسخت صورة (المرأة الحديدية) على مدار سنوت طويلة.شغلت الزعيمة الخجولة العالم أكثر من عقد ونصف بسياسة حازمة، وقوة إرادة فولاذية، وسلمت الراية لخصمها السياسي الاشتراكي الديموقراطي أولاف شولتس الذي سيصبح مستشارا جديدا لألمانيا بعد اختياره رسميا من قبل مجلس النواب (البوندستاغ). ستدخل المرأة الحديدية متحف التاريخ مثل غيرها من القادة الذين مروا على أوروبا، وستصبح جزءا من الماضي، بعد أن كانت تتحكم في مقاليد الأمور في أقوى قوة اقتصادية وصناعية في أوروبا، البلد الذي صنع أفخم وأشرس سيارات وأسلحة وطائرات العالم.أسطورة حقيقيةبعيدا عن الاتفاق أو الاختلاف مع سياستها، ستبقى ميركل أسطورة حقيقية، وإنسانة بمعنى الكلمة، حيث فتحت الباب أمام آلاف العائلات السورية والعراقية والأفغانية للقدوم إلى بلدها والعيش في كنفها ليتجاوز عددهم مليوني شخص بينهم 800 ألف سوري، في حين فرضت العديد من الدول الأوربية قيودا صعبة على المرور إليها، تحمل قصص حب لكثير من اللاجئين الذين يعتبرونها الأم الحنون، حيث احتضنتهم بعدما قست عليهم براثن الحرب والموت في بلادهم.يقول مراقبون إنها لم تنجب أبناء، لكن بات لها في كل زاوية من ألمانيا تقريبا طفلة باسم أنجيلا ميركل، بعدما (أنسنة) السياسة، وأخضعتها لخدمة البشرية، دون أن تنسى الطبيعة الحازمة للمنصب الذي تتولاه، ودون أن يذكرها أحد بأنها صانعة القرار في البلد الذي قاده هتلر.لم يتوقع أحد أن تتحول الطفلة الصغيرة إلى واحدة من أقوى سيدات العالم. غيرت أوروبا، وغيرت ألمانيا، وقبل كل شيء غيرت حياة أولئك الذين منحتهم قبلة اللجوء إلى بلدها.أقوى امرأةعرفها الألمان عام 1989 فتاة يافعة خجولة اقتادها المستشار الألماني المخضرم هيلموت كول من مختبرات الكيمياء إلى أروقة السياسة.. فتغلبت عليه وأزاحته وتفوقت على كل المنافسين، بعدها صعدت من منصب لآخر حتى بلغت رئاسة الحزب، واستقر بها المقام كأول مستشارة في تاريخ ألمانيا بعد أن أطاحت بمعلمها ووالدها الروحي هيلموت كول عن سدة حكم دام لها من بعده 16 عاما كاملة حتى أعلنت عن تنحيها وتخليها طوعا عن السلطة.حصلت على لقب أقوى امرأة في العالم على مدى سنوات متتالية، ووصفها إعلام العالم بالمرأة الحديدية لقدرتها على الاحتفاظ بالحكم كل هذه المدة، واشتهرت بقدرتها على تسطيح الانتقادات وبراعتها في إدارة الأزمات، فلم تتمكن أي انتقادات من الالتصاق باسمها رغم كثرتها.أما في دول جنوب أوروبا فيصفها الإعلام بالمتجبرة وتنعت في إسبانيا واليونان بهتلر الجديد لفرضها إجراءات تقشف قاسية على تلك الدول لإنقاذها من الأزمة المالية التي ضربت العالم عام 2008.ليست ميركلالمفاجأة التي لا يعرفها الكثيرون أن ميركل لا يوجد في اسم المستشارة الألمانية التي شغلت العالم، بل اسمها الحقيقي هو أنجيلا كاسنر، أما لقب ميركل فهو من زوجها الأول أولريخ ميركل، الذي انفصلت عنه عام 1981، وآثرت الإبقاء على اللقب رغم ارتباطها بزوجها الحالي جواكيم ساور منذ آواخر التسعينيات.لم تختر مجال الكيمياء الحيوية الذي حصلت على الدكتوراه فيه شغفا به، بل لأنه المجال الوحيد الذي لا يستطيع الشيوعيون تغيير حقائقه حسب تعبيرها. مع ثورات التحرر من السوفييت عام 1989 التي طالت المانيا الشرقية. كان مستشار المانيا الغربية حينها ”هيلموت كول“ يبحث عن كل ما من شأنه ترسيخ الوحدة بين الألمانيتين.رأى كول في ميركل شخصية اختزلت قطاعات متنوعة من المجتمع فهي امرأة وشابة متعلمة ومن ألمانيا الشرقية، وتلك مواصفات تطلبتها المرحلة فتطورت العلاقة بينهما حتى أصبح يسميها ابنتي في كل محفل، وصار يعتبر في مرجعيتها التاريخية معلمها ووالدها الروحي.إنقاذ أوروباالبنت الريفية الهادئة البسيطة لم يلحظ عليها البعض أي من مظاهر الدهاء السياسي أو ملامح القيادة الصارمة في بداية ظهورها السياسي قبل 32 عاما، لكن سرعان ما بدأت الأضواء تسلط على نهجها العملي القائم على التحليل والتأني في اتخاذ القرارات.في عام 1998 نالت من كول فضيحة مالية تتعلق بتبرعات الحزب، فانقلبت عليه وطالبته علنا بالتنحي في مقال كتبته بقلمها وتناولته مختلف الصحف الألمانية. وبعد الإطاحة به وإرغام خليفته على الاستقالة لذات الفضيحة انتخبت عام 2000 رئيسة للحزب لتصبح أول ألمانية شرقية تتزعم حزبا ألمانيا.وسرعان ما انتخبت عام 2005 أول مستشارة في تاريخ ألمانيا ثم أعيد انتخابها في عام 2009 حيث ظهرت في تلك الحقبة بصورة مغايرة سيما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية حينما ألقي على كاهل الألمان مسؤولية إنقاذ القارة العجوز من الإفلاس وانهيار اليورو؛ لتصبح رمزا للتقشف القاسي في تلك الحقبة.الباب المفتوحوفيما ضاق العالم باللاجئين، تحدت ميركل أوروبا كاملة بسياسة الباب المفتوح فأدخلت إلى المانيا نحو مليون لاجئ معظمهم من السوريين، رغم علمها أن ذلك سيفقدها جزءا كبيرا من شعبيتها، إلا أنها تمكنت من خلال قرارها ترميم سوق العمل الذي يعاني من حالة عدم اتزان بين الفئات العمرية.ويشعر الكثير من اللاجئين والسوريين على وجه الخصوص بالامتنان للمرأة التي احتضنتهم، حيث قاموا بخياطة الأقنعة وتطوعوا للذهاب للتسوق من أجل كبار السن الألمان المعزولين في المنازل، وخلال الفيضانات الأخيرة في غرب ألمانيا، توجه اللاجئون إلى المناطق المنكوبة للمساعدة في التنظيف.وتظهر أحدث الإحصاءات الحكومية أن المهاجرين الذين وصلوا في عامي 2015 و2016 يندمجون بشكل مطرد في المجتمع الألماني.وبات واحد من كل اثنين لديه وظيفة.. وأكثر من 65 ألفا مسجلون إما في الجامعات أو برامج التدريب المهني. ويعيش ثلاثة من كل أربعة في شققهم أو منازلهم ويقولون إنهم يشعرون ”بالترحيب“ أو ”الترحيب الشديد“.زوجة الشبحتعيش أنجيلا حياة بسيطة مع زوجها الملقب في ألمانيا بالشبح لقلة ظهوره الإعلامي إذ تتسوق من المتاجر العامة حتى أنها تقيس أحذيتها قبل شرائها، أما باقي اهتماماتها فتنحصر في الطبخ، ومشاهدة مباريات كرة القدم. تمنع حراسها من إغلاق الطريق ليمر موكبها، تخاف الكلاب منذ هاجمتها في عام 1995، أمر استغله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين أدخل عليها كلبه الضخم، فاتهمته بمحاولة إبراز رجولته رغم ادعائه عدم معرفته بخوفها من الكلاب.ووفقا لتقارير ألمانية، لا تسكن ميركل في قصر ولا تملك يختا ولا حتى طائرة خاصة. لم تستبدل موظفيها، وتتجنب الاتصال بهم في العطلة الأسبوعية، كانت مستقيمة وإنسانية في كل قراراتها وتصرفاتها، لكن كل تلك الصفات السامية مزجت على طريقة أهل الكيمياء بمآرب سياسية ومصالح وطنية.القراءة والنوموفي الساعات الأخيرة قبل أن تغادر منصبها، بقت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منشغلة بمهامها الرسمية، تتصل بزعماء العالم من مكتبها داخل مقر المستشارية الألمانية قبل أن تغادره للمرة الأخيرة وتسلمه لخليفتها أولاف شولتز المستشار الألماني الجديد.شاركت قبل يومين فقط باجتماع عبر الهاتف مع الرئيسين الأميركي جو بايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسي حكومة بريطانيا بوريس جونسون وإيطاليا ماريو دراغي، تناول التطورات في أوكرانيا والحشد العسكري الروسي على حدودها.تركت خلفها هموما سياسية كبيرة، أبرزها الأزمة الأوكرانية - الروسية، وقبلها أزمة كورونا التي طغت على عاميها الأخيرين في السلطة. ولكن رغم ذلك، فهي تغادر السياسة من دون عودة، حيث أكدت في مقابلة لقناة «دويتشه فيله» حين قالت «لن أكون وسيطا في النزاعات السياسية، لقد قمت بذلك لسنوات طويلة، 16عاما قضيتها كمستشارة».ما الذي ستقوم به إذن بعد تقاعدها؟ تجيب: «القراءة والنوم».أنجيلا ميركل أسطورة أوروبا: ولدت عام 1954 في مدينة همبورج بألمانيا الغربية. تنتمي لعائلة مسيحية متدينة إذ كان والدها قسا. انتقلت معه إلى ألمانيا الشرقية؛ حيث عمل في كنيسة بقرية نائية. حصلت على الدكتوراه في الكيمياء الحيوية. عملت حتى عام 1990 باحثة في الكيمياء الفيزيائية. بدأت مشوارها الساسي مع هيلموت كول عام 1989. انتخبت مستشارا لألمانيا عام 2005. بقيت في السلطة 5860 يوما وودعت السياسة أمس. يصفها البعض بـ»أسطورة أوروبا» بسبب تحولات حياتها.

مشاركة :