يتساءل كثيرون عن حقيقة الموقف السعودي من ملفات مصر والعراق وسوريا وفلسطين. سبب هذه التساؤلات هو غموض الموقف السعودي في وقت يرى الكثيرون أن الوضوح يجب أن يكون سيِّد المرحلة، خصوصاً وأن السعودية أخذت على عاتقها ترتيب البيت العربي بعد كل ما أصابه من ضرر نتيجة التدخلات الإيرانية. لم تتضح بعد استراتيجية السعودية طويلة المدى بعد مجيء الحكم الجديد، لكن في المجمل هناك تحوَّلات طرأت على السياسة السعودية تجاه المزيد من الحزم ضد التمدد الإيراني في منطقة الشام واليمن، وتقليل الاعتمادية على الحماية الأمريكية. فيما يخص مصر، تقف السعودية مترددة، فهي تريد أن تكون مصر قريبة، لكن ليس أقرب مما ينبغي فتكون القائدة، وليست أبعد مما يجب فتصبح في معسكر الآخرين. تريد السعودية أن تكون مصر في صفها، ومصر السيسي تحاول ابتزاز هذه الرغبة السعودية. مع مجيء الحكم الجديد ظنَّ الكثير أن السعودية في وارد مساعدة المجلس العسكري المصري في ترتيب البيت المصري، وإخراج السيسي من المعادلة، وجمع المصريين على قيادة شعبية مقبولة، وإعادة مصر إلى موقعها العربي المهم. لكن هذا لم يحصل، بل بدأ السعوديون يعودون شيئاً فشيئاً إلى المضي قدماً فيما خطه الحكم السابق– وإن بوتيرة أبطأ- من دعم نظام السيسي، رغم كل المؤشرات على قرب رحيله. ولعل ما تمر به المنطقة العربية في اليمن وسوريا والعراق أجبر السعودية على هذا التراجع التكتيكي. فيما يخص الملفين العراقي والسوري، ما زالت السعودية لم تتقدم خطوة لأخذ زمام المبادرة، ومقاومة النفوذ الإيراني في العراق، بل يأخذ عليها الكثيرون استمرارها في التحالف الدولي ضد داعش، وهو التحالف الذي كان بمثابة غطاء جوي لميليشيات قاسم سليماني والحشد الشيعي الطائفي، الذي اكتوى منه العرب السنَّة في العراق أكثر من غيرهم. لا شك أن وجود داعش هو أحد الأسباب الرئيسة في ضبابية الموقف السعودي. رغم أن السعودية تستطيع تكتيكياً ضرب إيران وداعش بحجر واحد، وذلك بأن تتوقف عن دعم التحالف، وبالتالي إشغال إيران بداعش، وداعش بإيران حتى يستنفدا قوتيهما. في وجود عراق شيعي متماسك، ستكون سوريا مخنوقة بين كماشتي الحكم الشيعي العراقي وحزب الله. فالمصلحة السعودية هي في دعم العرب السنَّة في العراق، دون إقحامهم في الصراع الإيراني الداعشي. في وجود عراق غير متماسك، وفي وجود طرف سني قوي، ستكون سوريا خارج المجال الحيوي الإيراني. التدخل الروسي في سوريا مجرد تفصيل صغير. فلن تستطيع روسيا تحقيق أي مكاسب دون وجود قوات إيرانية على الأرض. على السعودية أن تكون أكثر جرأة، وهي قد أثبتت قوتها وجرأتها في عاصفة الحزم، لكن اليمن مجرد جائزة صغيرة في مقابل الجائزة الكبرى سوريا. لقد تأخرت السعودية في بناء تحالفها مع تركيا وقطر لتوفير الدعم العسكري للثوار السوريين، وهو الأمر الذي سمح للروس بالتوافق مع الأمريكان– الذين يعاملون المطالب السعودية بفوقية وتجاهل- بالتدخل ووضع يدهم على سوريا، وبالتالي إجبار داعمي الثوار، وعلى رأسهم السعودية، على التفاوض مع الروس. يعلم الجميع أن النظام الروسي هو نظام بلطجي يقوم على القوة والابتزاز، ولا يلقي أي بال لعدد الضحايا، وقد شاهد الجميع كيف سوَّت قوات بوتين غروزني بالأرض، وأوقعت عشرات الآلاف من القتلى، دون أدنى اعتبار للقانون الدولي أو حقوق الإنسان أو محكمة العدل الدولية.. بات وضع السعودية وتركيا وقطر أصعب اليوم مع دخول روسيا على الخط. ويبدو أن سبب بطء تشكيل هذا التحالف هو الانتخابات التركية السابقة، التي لم تثمر أغلبية مريحة لحزب العدالة والتنمية. اليوم هناك حقائق جديدة، روسيا موجودة وتبلطج دون رادع، وهناك برلمان تركي قوي يقف خلف أردوغان، وهناك تقدَّم للثوار في أغلب جبهات القتال. من غير المفهوم وسط كل ما يجري أن تحاول السعودية جاهدة كسب ود الدب الروسي، الذي يبحث عن مصلحته الخاصة، في ظل وجود ضوء أخضر أمريكي يريد منه الأمريكان ضرب عصفورين بحجر: إسقاط الدب الروسي في المصيدة واستنزاف قوته، ولجم السعودية، القوة العربية الصاعدة، ومنعها من التفكير بأن تُقدم على أخذ حقها بيدها من دون مساعدة الأمريكان! تستطيع السعودية أن تجعل من سوريا جحيماً للروس، لكنها لا تريد فعل ذلك قبل أن تستنفد كل السبل لإقناع الروس. وهو الأمر الذي لن ينجح إلا بصفقة كبيرة يبدو أن السعودية غير مستعدة لها، في ظل ظروفها الاقتصادية مع انخفاض أسعار النفط. على السعودية أن تفكر بعقلها لا بجيبها إذا أرادت أن تضع نفسها في قلب المشهد الإقليمي. فالمال أثبت فشله الذريع في صنع النفوذ المطلوب، ودونكم مصر ولبنان خير مثال على أن المال لا يصنع النفوذ. النفوذ يتحقق بالقوة العسكرية الضاربة، وبالحاضنة الشعبية، وبالسياسة الجريئة والشجاعة. السياسة ليست سوى أوراق تفاوضية في اليد. ولن تكون لديك أوراق تفاوضية ما لم يكن لك نفوذ حقيقي، ولن يكون لك نفوذ حقيقي ما لم تكن مؤثراً على الأرض، ولن تكون مؤثراً ما لم تجرؤ وتضغط وتدعم. ما لم ترمِ السعودية بثقلها وراء الثوار السوريين سياسياً وعسكرياً فلن يهتم الأمريكان ولا الروس بمطالبها، ولن تستطيع أن تُقنع العالم بأنَّها لاعب إقليمي لا ينبغي تجاوزه. فيما يخص الملف الفلسطيني، تستطيع السعودية أن تضع القضية الفلسطينية في قلب المشهد العربي، فهذه القضية هي بمثابة الموضوع الوحيد القادر على جمع العرب، وبالتالي ترتيب البيت العربي انطلاقاً من الإجماع العربي حولها. لقد استخدمت إيران ورقة فلسطين طويلاً، ونجحت في فصل العرب عن حماس وحماس عن العرب، وقد قالها خالد مشعل جهاراً على شاشة الجزيرة: لماذا تلوموننا حين نتلقى الدعم الإيراني، بينما إخوتنا العرب يرفضون دعمنا؟!، لو وجدنا من العرب دعماً لما لجأنا مضطرين إلى إيران. قضية فلسطين هي القضية التي وضعت مصر والسعودية في قلب المشهد العربي في السابق. وهي التي جعلت الرياض في السابق مزاراً لوفود غربية كثيرة، للاستماع إلى رأيها بخصوص الصراع العربي الصهيوني. تستطيع السعودية اليوم الضغط على إيران وعلى إسرائيل بورقة القضية الفلسطينية، وذلك باحتضان حماس، الأمر الذي سيجعل أمريكا والغرب من ورائها يدرك أن الأمر جد، وأن السعودية مقدمة على تغيير شبكة التحالفات، مما قد يشكل خطراً على إسرائيل، وعلى إيران، التي تحاول أمريكا والغرب ترجيح كفتها إقليمياً ضد العرب السنَّة، كي يبررا وجودهما في المنطقة. هناك تغيير كبير في السياسة الخارجية الأمريكية، يضع أمن الخليج في مرتبة ثانية في سلم المصالح الأمريكية، بعد أولوية السيطرة على التمدد الصيني. ليس هذا فقط، بل إن الأمريكان باتوا يقبلون بفكرة أن يقوم نظام الولي الفقيه بلعب ذات الدور الذي لعبه نظام الشاه، وهو دور شرطي الخليج. هذا التغيير الكبير في السياسة الأمريكية الخارجية يجب أن يواكبه تغيير في السياسة السعودية، يقلل الاعتمادية أكثر فأكثر على الأمريكان، ويضع وجهة نظرهم في المرتبة الثانية في سلم الأولويات السعودي. إنَّ كل ما كان ينقص السعودية في السابق هو الإرادة السياسية، وهي اليوم موجودة، وأكبر تمظهراتها هي عاصفة الحزم، لكن الانتصار في الحرب ضد الحوثيين قد يوجع الإيرانيين، لكنه لن يكسر ظهرهم. ما سيكسره هو إسقاط نظام بشَّار في سوريا، وهو الأمر الذي سيحقق انتصاراً سعودياً كبيراً، وسيدشن لمرحلة جديدة عنوانها الأبرز السعودية اللاعب الإقليمي الأقوى الذي لا يمكن تجاوزه. .. شؤون خليجية
مشاركة :