لغتنا العربية.. بين الغربة والجمود

  • 12/16/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ناقش معجميّون وأدباء موضوع جمود المعجم اللغوي أمام ألفاظ جديدة تفرضها استعمالات الحياة وتعاطي الأجيال مع وسائل التواصل الاجتماعي، وشيوع التدريس بلغات أجنبيّة، مؤكّدين أهميّة أن يوازي ذلك جهداً لغوياً ذكياً، غير محنّط أو يقف عند النقل أو الترجمة فقط، بل يتناول الجديد ويصهره بأدوات لغتنا العربيّة التي تقبله وتتيحه لعالم المعرفة، من دون إنكار لتغيّرات العصر والاندماج الإنساني واختلاط اللغات وسيادة اللهجات في عالم، كلّ يوم يأتي بالإضافي والجديد من الأسماء العلميّة والتقنيّة. وأكّدوا، في حديثهم لـ«الاتحاد»، أنّ لغتنا حافظت على كينونتها ومكانتها الشريفة، باعتبارها لغة القرآن الكريم والعلوم في عصورها الزاهرة، معربين عن أسفهم لوجود هوّة بين المعجمي العربي والأجيال والتنفير من اللغة، بعدم تفهّم احتياجات الأبناء إلى قاموس أو معجم عصري متجدد ومواكب، لا يعادي الجديد، بل يتفاعل معه ويقرأه ويحتضنه بمعاييره الأصيلة المعروفة. ونبّهوا إلى خطر «الانهزام الداخلي» أمام كثير من شبابنا في غربتهم اللغوية أمام فرحة الآباء باللغات الأجنبيّة وزهدهم باللغة الأمّ التي أعطاها العلماء واللغويون الأجانب قبل العرب مكانتها اللائقة، كلغة عريقة وذات تراث كبير. يرى د. منصف الوهايبي الفائز بجائزة الشيخ زايد 2020 في الآداب وعضو المجمع التونسي بيت الحكمة، أنّ من واجبنا اليوم، والعربية تعيش في عوالم لغوية لا عهد لها بها، مثل انتشار لغات كالإنجليزية والإسبانية والصينية وغيرها، تؤثر فيها تأثيراً بعيد المدى، أن نعيد وصف العربية وصفاً علمياً، بلا حرج من استخدام المفاهيم الحديثة، مذكّراً بأنّ اللّغة تتطوّر وأنّ العلامة أو الكلمة لا تمضي على ثبات وديمومة واطّراد، بل أنّ تطوّر العلامة يمكن أن يفضي عبر تحوّلات وتناسخات لغويّة كثيرة لا إلى تغيّرها فحسب، وإنّما إلى زوالها أيضاً. ويرى أننا لا نملك، تلقاء مسألة كهذه، سوى إجابتين ممكنتين: أولاهما أنّ الكلمة تغيّر ما بها من المعنى أكثر ممّا هي تضمحلّ أو تتلاشى، كما يتّخذ هذا التّغيّر طرائق عدة منها: توسّع المدلول الذي يتولّد منه توسيع في المعنى، والتّقييد، فقد تتّسع الكلمة في حقبة لجملة من المعاني، ثمّ تقصر في أخرى على معنى واحد، وقد تمرّ الكلمة بالطّورين معا: انتشار يعقبه انحسار، وتحوّل الكلمة كلّما تنقّل المعنى من شىء إلى آخر، وثانيتهما أنّ الكلمة تضمحلّ باضمحلال الشّيء الذي تسمّيه، وهذا لا يحدث عادة إلاّ بعد حقب متطاولة، فلا يعود للكلمة من وجود سوى الوجود الأدبيّ، ومن وظيفة سوى الوظيفة الأدبيّة أو الشّعريّة. انهزام داخلي ويؤكّد الدكتور محمد صافي المستغانمي، الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالشارقة، أنّ اللغة العربيّة لغة عظيمة اصطفاها العليم الحكيم لحمل معجزة القرآن الكريم، وهي من الثراء والسّعة والمرونة، وفيها من التقنيات ما يجعلها تتواكب مع جميع الظروف، وتلبّي حاجيات جميع طبقات المتكلمين بها، وجميع شرائح المجتمع. وينبّه المستغانمي إلى أنّ المتأمّل في الواقع اللغوي المعاصر يجد ابتعاداً عن العربيّة الفصيحة وعزوفاً عنها خصوصا عند فئة الشباب، ومردّ ذلك إلى أسباب وعوامل متنوّعة، يمكن إيجازها بضعف الخلفيّة اللغوية المكتسبة لدى الشباب في المراحل الدراسيّة، وما يفرزه الواقع التّربوي من طلاب غير قادرين على الإفصاح والإبانة والتّبيين بلغة سليمة فصيحة، وهو ما يعود إلى حالة الانهزام الدّاخلي أمام اللغة الإنجليزيّة التي طغت بحكم العولمة، وبحكم إنتاج المعرفة، وعدم التجديد في طرائق تدريس اللغة، وتشجيع الآباء اليوم تعليم أبنائهم في المدارس الأجنبيّة زعماً منهم أنّ الإنجليزية ومثيلاتها توفّر فرصاً عظيمة في سوق العمل، والرغبة في سرعة التواصل لدى الشباب في مواقع التواصل الاجتماعي. وحول دور المجامع اللغوية، يؤكّد المستغانمي أنّ المجامع اللغوية تسعى جاهدةً لمواكبة العصر والانفجار المعلوماتي، وتوفير الكلمات والألفاظ المستجدّة، وتعريب الضروري، والاجتهاد في إصدار المعاجم الحديثة، معرباً عن أسفه لأنّ هذه الألفاظ المستجدة والتعابير التي ينصح بها المجمعيّون لا تلقى سبيلها إلى التنفيذ والتطبيق. الوقوف عند الترجمة ويرى د. إبراهيم بن مراد الأستاذ في كلية الآداب والفنون والإنسانيّات بجامعة منوبة – تونس، ورئيس جمعية المعجميّة العربيّة بتونس، أنّ العرب لم يخرجوا بعد في تعامُلهم مع اللغة العربيّة من مرحلة التّرجمة إلى مرحلة الابتكار، مؤكّداً أنّ الابتكار الذي يرفع من شأنِ اللغة العربية وينشر استعمالها في العالم باعتبارها لغةً ثقافيّةً حضاريّةً علميّة عالميّة، يكون بابتكارِ المعارف الجديدة والتقنياتِ الحديثة في البلاد العربيّة باللغة العربيّة، وعندئذ يمكن أن تُدرَّسَ الابتكاراتُ العربيّة بتسمياتها العربيّة وأن تُنقَلَ تسمياتُ تلك الابتكارات إلى اللغاتِ الأجنبية، فتكون العربية لغةً مَصْدرًا وليست مجرّد لغةٍ مَوْرِدٍ. ويقول إنّ ما زاد واقع العربيّة تأزُّمًا أمورٌ أهمّها سياسات المجامع اللغويّة والعلميّة في التعامل مع اللغة العربية، فهي قائمةٌ على مبدئين يبْدوَان متناقضيْن، هما تطوير اللغة العربيّة، والدفاع عن سلامتها، وكثيراً ما يكون المبدأ الثاني معطّلاً للمبدأ الأول، لميل المجامع في الغالب إلى القديم وتوجّسِها من مظاهرِ التحديث والابتعاد ولو كان مبرَّرًا عن سنن العرب القدماء في كلامها. ويضيف مراد إلى ذلك، تدريس المعارف العلميّة الأساسيّة في بلاد عربية كثيرة بلغة أجنبية، هي إمّا الانجليزية وإمّا الفرنسية، وعدم وحدة القرار في الوطن العربي لأنّ لكل بلدٍ حريتَه في اختيارِ ما يراه مناسبًا في استعمال لغة التّدريس، فلا توجدُ لذلك «سياسةٌ حمائيّةٌ» مُوحَّدة لحماية اللغة العربية ودَعمها في مواجَهة اللغات الأجنبية، واستيراد المعارف العلميّة والتقنيات الحديثة من البلدان المبتكِرة لها بلغاتها الأصليّة، واكتفاءُ المجتمعات العربيّة باستعمال تلك المعارفِ والتقنياتِ باللغات التي استُعْمِلتْ في ابتكارها، وغيابُ المنهجيّة العامّة الموحَّدة والموحِّدَة للتّوليد المعجمي والمصطلحي ووضعِ المصطلحات العلمية والفنيّة في البلاد العربية، والتّسابقُ إلى التفرّد في الاصْطلاح من دونَ مراعاةٍ لما سبقَ اتّباعُه من طرقٍ رغم جُزئيّتها، وما سبقَ وضعُه من مصطلحات، وبقاءُ المصطلحات والألفاظ التي وضعَها الأفرادُ من العلماء والجماعاتُ في المجامع حبيسةَ القوامِيس التي أُلِّفَتْ لها من دون أن تظهر إلى الاسْتعمَال العام. اللغة كائن حية ويؤكّد الشاعر السيد حسن، المدير العام للبرامج الثقافية بالإذاعة المصرية، أهميّة أن تظل اللغة العربية الحصن المكين للهوية العربية، ولذلك فليس من العدل حجزها داخل قيود جامدة، فالمتفق عليه أن اللغات كائنات حية تنمو من أجل مواكبة التطور الذي تشهده الحياة بصفة عامة. ويرى أنّ الانتصار للغة العربية يعنى الموازنة الدقيقة بين مواجهة التحديات من ناحية وإثرائها بالمصطلح الحديث من ناحية أخرى، ويلفت الشاعر حسن إلى أنّ أهم التحديات التي تواجهها اللغة العربية يتمثل في طغيان اللغات الأجنبية سواء في مراحل التعليم المختلفة، أو تسمية المؤسسات والشركات والأسواق، وإشاعة لون من ألوان الاعتقاد بأن اللغة الأجنبية تمنح الشخص أو المؤسسة أو المنتج مكانة اجتماعية أعلى أو منزلة أرفع، وكذلك شيوع مصطلحات عالم التواصل الاجتماعي بمنطوقها الأجنبي على ألسنة العامة وخاصة الشباب، وتدهور لغة المسؤولين، خصوصاً في قاعات المحاكم التي كانت معقلاً مهماً من معاقل اللغة الراقية الشامخة، فضلاً عن قاعات الجامعات التي أصبحت تعتمد العامية حتى في محاضرات الكليات المتخصصة في اللغة العربية وعلومها، وهو ما يعنى مزيداً من الانهيار لمستوى مدرّسي المستقبل. ويضيف إلى ذلك لغة وسائل الإعلام التي تمثل تحدياً في ميدان الإعلانات والدراما والغناء العشوائي وحتى الصحافة المكتوبة التي تسللت إليها اللهجات العامية وتكتسب كل يوم مساحات إضافية. نقل وتحديث وترى المعجميّة الأردنيّة د. سهى نعجة أنّ لأبنائنا الحق في استحضار معجمٍ لغويٍّ عربيٍّ عصريٍّ يخلّدُ هُويّتهم اللغويّة ومنجزاتهم الدّلاليّة، ويكون بوّابة عبور آمنة للباحثين والدّارسين للولوج في آليّتهم في الأداء التّعبيريّ، وسبُلهم في تفجير الطّاقات الكامنة في اللغة من غير افتئات. وتقول إنّ «معجمنا اللغويّ العربيّ هو معجم مَرْحلة زماناً ومكاناً وعِرْقاً لا معجم أمّة في عصورها التّاريخيّة الممتدّة وأماكنها المترامية وأجناسها وطبقاتها المتنوّعة. وهذه الصّورة الجزئيّة للمعجم اللغويّ العربيّ المشوبة بالعوز والتّقصير ليست مسؤوليّة اللغويّين الأوائل الذين أسّسوا الهيكليّة العامّة للمعجم العربيّ بقدْر ما هي مسؤوليّة اللغويّين النّصّيّين الذين جاؤوا بعدهم، واكتفَوْا بأمانة النّقل عنهم دونما تحديث للمادّة اللغويّة، أو إشارة إلى سنّة التطوّر الكامنة في اللغة، وكأنّهم إنْ راموا إصلاحاً أو تطويراً أو أصّلوا قديماً دنّسوا شرعيّة التّراث، وأباحوا حُرْمته، وما هذا بصحيح». وتتساءل د. نعجة أيضاً، حول قضية ثنائية الحياة والموت في الدوال اللغوية، في معنى أنّ اللغة العربيّة إنّما هي كائن حي، يولد ويهرم ويتطوّر، فكيف لمعجميّ الأمس أنْ يرصد هذه الدّلالات والإشارات الضّوئيّة والهواتف النّقالة والصّواريخ ومفهوم التّقاعد وغيرها كلّها منجزات حضاريّة ومفاهيميّة جديدة؟. متطلبات التقانة ويعرب الدكتور أحمد عقيلي، عضو الموسوعة الدولية للمختصين والمهتمين باللغة العربية، عن أسفه لأن لا يكون للغة العربية حضورها البارز في مجال التكنولوجيا، أو على أثير الشبكة العالمية «الإنترنت»، مؤكداً أنّ تعليم العربية اليوم بحاجة إلى الإفادة من التقانة وأساليبها، ومما جاءت به النظريات الحديثة في تعليم اللغات والعلوم الإنسانية، خصوصاً بعد ظهور وسائل وطرق تعليمية جديدة، منها: التعليم الذكي، والتعليم المبرمج، والتعليم عن بُعد، بحيث يكون الطالب فاعلاً وليس منفعلاً، داعياً إلى ضرورة امتلاك المتعلم القدرة على التعامل مع وسائل التقانة الحديثة، وكيفية الوصول إلى المعلومات من مصادرها المتنوعة، وكيفية توظيفها في العملية التعليمية، بغية تحقيق المخرجات التعليمية المناسبة. ويدعو عقيلي اللغويين والمهتمين بلغتنا الشريفة إلى العمل على ابتكار أساليب جديدة في استعمالها، وهو ما يطلق عليه اليوم اسم: الصناعة اللغوية، أو تكنولوجيا اللغات، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال وضع ملايين العبارات الجديدة التي تثري اللغة، وتسهل مهمتها في التعامل مع المعاني، والمفاهيم الجديدة، لتسهيل استيعاب العلوم والتكنولوجيا، أمام ميل الشباب واليافعين تجاه الثقافة الرقمية، وزهدهم بالكتاب الورقي. ألفاظ جديدة ويؤكد الشاعر محمود حسن، رئيس مؤسسة الكرمة للتنمية الثقافية والاجتماعية بمصر، أنّ علينا معرفة قيمة لغتنا العربية من غير أبنائها، متمثلاً بقول الكاتب والمستشرق الألماني فيشر: «لا أعرف لغة أغنى من العربية ولا أسلس قيادًا ولا أرق حاشية»، إضافة إلى أقوال عميد الأدب العربي طه حسين حول خطر التفريط باللغة العربية الفصحى، والتراث العظيم، الذي حفظته لنا اللغة العربية الفصحى، على اعتبار أنّ هذا التفريط إنّما هو نوعٌ من الفساد في طغيان اللهجات دون العناية باللغة الأم، مؤكداً ضرورة اعتماد مَجْمع اللغة العربية من آن لآخر كلماتٍ تضاف إلى قاموسها، من دون انحياز أو انغلاق.

مشاركة :