تظل المصطلحات وتعريفاتها هي الشغل الشاغل للمتبحرين في العلوم، حيث يحاول البعض تفسيرها دينياً، والبعض الآخر علمياً، وهناك من يربطها بمفهوم معين أو فعل معين، ومن المصطلحات التي توقفت أمامها كثيراً بحثاً عن تعريف شامل مانع لها ثلاثة من المصطلحات في غاية الأهمية، حيث يرتبط كل منها بالضمير الإنساني، بل ترتبط بالمجتمع وتطوره، ألا وهي: محاسبة النفس بين جلد الذات واللامبالاة. ولعلي أبدأ مقالي هذا بتعريف «الضمير الإنساني» لما يمثله من أهمية في أفعال الأفراد وتصرفاتهم، فالضمير لغوياً هو شعور إنساني باطني في المرء يجعله يراقب سلوكه ويتحكم بتوجيهه متبعاً الخير راذلاً الشر، وهو ما يخفيه الإنسان في نفسه. وقد عُرف الضمير في كثير من العلوم من أشهرها تعريفاته التي ارتبطت بكل من علم الفلسفة، وعلم النفس. فيُعرف الضمير في الفلسفة على أنّه مركّب من خبرات يكتسبها الإنسان وجدانيّاً تساعده على فهم المسؤوليّة الأخلاقيّة للسلوكيّات التي ينتهجها وسط مجتمعه، وذلك بتمييزه بين الحق والباطل بناء على وضعه في المجتمع. والضمير عند الفلاسفة لا يورّث، وإنّما يكتسبه الإنسان من خلال التربية والظروف المعيشيّة. ويرتبط الضمير كذلك بأداء الواجب، حيث إنّ التقصير في أداء الواجبات السلوكيّة يصحبه ما يعرف بتأنيب الضمير، وهكذا فإنه يعد قوة دافعة للتهذيب الذاتيّ للفرد، وبالتالي سيادة الأخلاق الحميدة في المجتمع. أما في علم النفس فيتعلّق الضمير بالأنا. فهو نظام تقييميّ ذاتي وخارجي، فالإنسان يقيّم تصرّفاته ويتلقى في ذات الوقت ردود أفعال أو تقييمات من الآخرين بناء على تلك التصرّفات. ومن منطلق الضمير وأهميته في حياة الفرد والمجتمع، وقدرة وجوده على تكوين أيديولوجيات معينة تحكم سلوك الفرد؛ أعبر إلى جلد الذات، حيث يعتبر من الأمراض النفسية التي يعاني منها بعض الأفراد. ومريض جلد الذات Self-flagellation يقوم بالخوض في تفاصيل أخطائه، وتضخيمها، ودوام الحديث عنها، وهو شخص محب للمعاناة وجرح مشاعره الشخصية، ومع تكرار الفعل يتحول من تأنيب شخصي إلى مرض نفسي دائم التكرار مع جميع المواقف، بل يصل الأمر إلى أن يصم المريض نفسه بالخزي والعار، نتيجة الشعور بالذنب، وينعكس ذلك على سلوكياته، ومشاعره، فيقلل من قيمة ذاته، ومن شأنه، ويبدأ في الشعور الدائم بالسخط، وقد يصل الأمر إلى إحداث ضرر بدني لنفسه كعقاب ذاتي. وهذا النوع من الإحساس خطير جدًا إذا انتشر في المجتمع، حيث يفرز أشخاصًا مشوهين نفسيًا ليس لديهم القدرة على اتخاذ قرار خوفًا من عواقبه، إلى جانب تأثيرهم السلبي على من يحيطون بهم. وثاني المصطلحات هو اللامبالاة Carelessness، وهي حالة من عدم الاهتمام والاكتراث للأشياء المهمة والضرورية في حياتنا، وتنعدم فيها استجابتنا ونبدو للآخرين باردين غير متحمسين. وقد عرف علم النفس اللامبالاة على أنها حالة نفسية تتَّصف بعدم التأثّر بالمواقف التي تثير الاهتمام وفقدان الشعور والانفعال بأمرٍ ما وعدم أخذه بعين الاعتبار. ويقول علماء النفس إنها حالة وجدانية سلوكية معناها أن يتصرف الشخص بلا اهتمام في شؤون حياته أو حتى الأحداث العامة كالسياسة وإن كان هذا في غير صالحه، مع عدم توفر الإرادة على الفعل وعدم القدرة على الاهتمام بشأن النتائج. وقد يكون أحد أسباب اللامبالاة المرور بمواقف صعبة للغاية ومؤلمة، حيث يعمل المخ على تعطيل المشاعر لتجنب الألم لدينا، ومن ثم الشعور بشيء من اللامبالاة. وتحدث حالة اللامبالاة عندما تبدو مشاكل حياتنا ومجتمعاتنا صعبة لدرجة أننا نشعر بالعجز الشديد عن فعل أي شيء حيالها ونكتفي بمجرد التجاهل، وأيضًا المخدرات قد تسبب عدم مبالاة الأشخاص ويمكن أن يكون السبب أيضًا بعض الأمراض النفسية مثل الاكتئاب أو اضطرابات الدماغ الأخرى. والشعور باللامبالاة يعد شعورًا فريدًا، فهو شعور بعدم الشعور، وإنه شيء واجهه الشخص في مرحلة ما من وجوده، وعندما يشعر بأن شيئًا حيويًا مفقود من حياته. ويأتي الإسلام بالحل السحري، الذي يساعد المجتمع على البقاء والاتزان والتوازن من قبل أفراده، من خلال محاسبة النفس، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [الحشر:18]. وفي الحديث عن أنس بن مالك عن رسول الله قال: {الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني} [رواه الإمام أحمد والترمذي]. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية). والنفس في الإسلام على أنواع ذُكرت في القرآن الكريم، فالنّفس المطمئنّة هي نفسٌ خيّرة تأمر بالخير، وهي النّفس التي سَكنت إلى ربّها وإلى صفاته الفضيلة، وأسمائه الكريمة، والطمأنينة تعني أنّ الله عز وجل يُنزل الاطمئنان والسّكينة على صاحب هذه النفس، فيَغدو قلبه، وسمعه، وبصره كله بين يدي الله، ويُحقَّق الوصول إلى هذه النفس بكثرة الذّكر، والاستغفار الدائم غير المُنقطِع. والنفس الأمّارة بالسوء هي نفسٌ كثيرة الذنوب، آثمةٌ، ظالمةٌ لصاحبها وتجرّه إلى غضب الله عز وجل وعصيانه، وتنتهي به في نار جهنّم، وهي نفسٌ فاسقةٌ شرّيرةٌ، تدعو صاحبها لفعل السوء. يَجب على صاحب هذه النّفس مُخالفة هواه وشهواته، والرجوع إلى طاعة الله ونيل رضاه، فمن تخلّص من شرّ نفسه وفتنتها وفّقه الله عز وجل ووعده وَعداً حسناً. والنّفس اللوّامة هي النفس كثيرة اللوم، تخافُ الله وتخشى عقابه، أثنى عليها الله، وأقسم بها في كتابه، وهي نفسٌ تحاسب صاحبها وتوبّخه على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ. وهذه النّفس متقلّبةٌ، متردّدةٌ، تأتي الذّنب، وتلوم صاحبها عليه، وتردّه إلى الصّواب، تغفل عن الذّكر والطاعة ثمّ تعود. يقول الحسن البصريّ: «إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائمًا، يقول: ما أردت بهذا؟ لم فعلت هذا؟ كان غير هذا أولى، أو نحو هذا من الكلام». يقول بعض العلماء إنّ النفس اللوامة نفسٌ ثالثةٌ، ومنهم من يقول إنّها وصفٌ للنّفسين السّابقتين، فالنّفس المطمئنّة توبّخ صاحبها إذا تكاسل عن طاعةٍ، أو نسي فرضاً، أو عمل سوءاً، وإذا كانت نفسه أمّارةً بالسّوء تلومه إذا عمل خيراً أو أدّى فرضاً. وما بين جلد النفس، واللامبالاة، نجد وعد الله تعالى في كتابه الكريم إلى أصحاب النفوس المطمئنة بالرجوع إلى الله عز وجل راضية مرضية، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} صدق الله العظيم.
مشاركة :