دار بن لقمان.. شاهدة على هزيمة الصليبيين في المنصورة

  • 11/13/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة الخليج: تكتسب دار ابن لقمان في مدينة المنصورة شهرتها الدولية، بما تحمله على جدرانها من تاريخ إنساني عريق، وربما يكفيها مجداً أنها كانت شاهداً قبل أكثر من ثمانمئة عام على واحد من أكبر الأحداث التي غيرت خريطة المنطقة، عندما اندحرت قوات الحملة الصليبية السابعة على أسوار مدينة المنصورة، واقتيد لويس التاسع ملك فرنسا أسيراً إليها في أبريل نيسان من عام 1250 للميلاد، ليقضي خلف جدرانها ردحاً من الزمان، قبل أن تفتديه المملكة الفرنسية بمبلغ كبير من المال. كانت دعوة البابا أوربان الثاني في نوفمبر/تشرين الثاني 1096 للاستيلاء على الأراضي المقدسة هي الشرارة التي أشعلت نار الحروب الاستعمارية التي شنها الغرب الأوروبي على الأراضي الإسلامية، والتي تحولت إلى حركة عالمية أطلق البعض عليها مسمى الحروب المقدسة، وعرفت مؤخراً باسم الحروب الصليبية، وقد تحولت هذه الحروب إلى حركة عالمية استمرت حوالي قرنين من الزمان. ومع أن مصر،حسبما تشير العديد من الدراسات التاريخية، لم تكن ضمن المشروع الصليبي أو أحد أهدافه، إلا أن جيوش الحملة الصليبية الأولى بعد أن وصلت بلاد الشام وواصلت زحفها إلى بيت المقدس، أدرك بعض قادتها مدى أهمية مصر عسكرياً وسياسياً، فطفت فجأة على السطح فكرة الاستيلاء عليها، حتى يتم تأمين الوجود الصليبي في بلاد الشام، فاستقر الرأي في البلاط البابوي، على إرسال الحملة الصليبية الرابعة إلى مصر، غير أن هذه الحملة انحرفت عن مسارها واتجهت إلى القسطنطينية واستولت عليها في عام 1204. اتخذت الحملة الصليبية الخامسة بقيادة جان دي برلين، مصر هدفاً لها، واستولت على مدينة دمياط في عام 1218، ما جعل الملك الكامل يعرض على الصليبين أن يمنحهم مدينة بيت المقدس في مقابل جلائهم عن دمياط، لكن عرضه قوبل بالرفض، واستمرت الحملة في طريقها إلى القاهرة، وعندما وصل الجيش الصليبي إلى المنطقة المقام عليها مدينة المنصورة قام المسلمون بفتح السدود فغرقت معسكراتهم واستسلموا لجيش المسلمين، ومن هذا اليوم اتخذت المنصورة هذا الاسم تيمناً بالنصر وظهرت هذه المدينة إلى حيز الوجود في عام 1219. ظلت مدينة بيت المقدس في أيدي الصليبيين منذ أن استولوا عليها في عام 1099 إلى أن حررها صلاح الدين في أعقاب معركة حطين في عام 1187، لتعود من جديد مدينة إسلامية، غير أن الخلافات والانقسامات داخل البيت الأيوبي، دعت الملك الكامل إلى الاستعانة بالإمبراطور الألماني فريدريك الثاني، مقابل تنازل الملك الكامل عن مدينة بيت المقدس في عام 1229، الأمر الذي أثار موجة من السخط والأسى في العالم الإسلامي، ومع استمرار الخلافات داخل البيت الأيوبي قام السلطان الملك الصالح نجم الدين بالاستعانة بالخوارزمية ضد خصومه من الأيوبيين والصليبين، وتمكن الخوارزمية من استعادة بيت المقدس نهائيا من أيدي الصليبيين في 11 يوليو/تموز عام 1244، وعندئذ فتُر عزم الحكام في أوروبا، باستثناء لويس التاسع ملك فرنسا الذي اشتهر بالتزامه الديني. وكان لويس قد أصيب بحمى شديدة في أواخر عام 1244 ونذر أن يخرج على رأس حملة صليبية إن شُفي، وبالفعل شفي من مرضه وأعلن مجمع ليون في عام 1245 اختيار لويس التاسع ليكون قائدا للحملة الصليبية السابعة المزمع إرسالها إلى الشرق، وقد استغرقت استعدادات لويس التاسع ثلاث سنوات ثم أبحر في أواخر أغسطس/آب من عام 1248، قاصداً جزيرة قبرص التي تقرر اتخاذها قاعدة لتجمع الحملة، فوصلها في سبتمبر/أيلول 1248 حتى نزل في ضيافة ملك قبرص ثمانية أشهر، وبعدما جمع ما يلزم من المؤمن والذخيرة، اتجه صوب دمياط، ووصلها في 4 يونيو/حزيران من عام 1249. ألقت السفن الصليبية مراسيها في فجر الخامس من يونيو/حزيران من عام 1249 على الشاطئ الغربي للنيل، حيث دارت معركة بين الجانبين، فتفوق الصليبيون، فانسحب الأمير فخر الدين إلى الضفة الشرقية متراجعاً إلى دمياط، ثم انسحب من دون مبرر إلى اشموم طناح، وعندئذ لم تجد القوات الصليبية ما يمنعها من احتلال دمياط في 6 يونيو/حزيران من عام 1249، وعندئذ أرسل لويس برسالة استفزازية إلى الملك الصالح الذي رد عليها برسالة مماثلة، ثم هدأت الأوضاع في المعسكر الصليبي انتظاراً لوصول الإمدادات القادم بها ألفونسو، كونت بواتيه شقيق لويس التاسع. في هذه الأثناء قرر الملك الصالح نقل معسكره من أشموم طناح إلى مدينة المنصورة التي دبت فيها الحياة عندئذ من جديد، وفي أواخر أكتوبر/تشرين الأول من عام 1249 وصلت الإمدادات اللازمة لمعسكر الصليبيين، فقرروا الزحف إلى القاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني 1249، ولم يكد يتحرك الصليبيون حتى توفي الملك الصالح في 23 نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، بعد أن رتب شؤون الدولة مع زوجته شجرة الدر، فأوصى لولده توران شاه بالسلطة، وفخر الدين يوسف بقيادة الجيش، وأخفت شجرة الدر خبر وفاته حتى لا تؤثر على الروح المعنوية للجيش، ونجحت في إصدار المراسيم والمكاتبات بتقليد جيد لتوقيع الملك، وبالرغم من كل هذه الاحتياطات تسرب بعد مدة خبر الوفاة ما شجع الصليبيين على الزحف إلى القاهرة. استقر رأي قائد الجيش فخر الدين بن يوسف على أن يظل معسكراً بالجيش عند قرية جديلة فيما واصل الصليبيون زحفهم إلى فارسكور، ثم إلى البرامون حتى وصلوا إلى قرية جديلة، وصار البحر الصغير يفصل بين الجانبين، وكان لزاماً على الصليبيين ضرورة عبور البحر الصغير حال رغبتهم في استمرار الزحف إلى القاهرة، وعندئذ أمر لويس بتشييد جسر لعبور قواته لكن مقاومة المصريين الباسلة، حالت دون تنفيذ هذا الجسر وبالفعل تبددت هذه الفكرة وأثناء البحث عن البديل وجد مكاناً في بحر أشموم يصلح لعبور الفرسان فقط من دون المشاة، وبالفعل عبر عدد من الفرسان. أصدر لويس أوامره بعبور الفرسان في ثلاث وحدات، إحداها برئاسة أحد أشقائه الكونت روبرت، على أن ينتظر الجميع في الناحية الأخرى إلا أن روبرت تشجع ونسي تعليمات شقيقه، وفاجأ معسكر جديلة، ولم يتمكن قائد الجيش الأمير فخر الدين من ارتداء درعه وتعرفت عليه مجموعة من الفرسان واستطاعوا محاصرته وطعنوه برماحهم حتى سقط شهيداً. عندئذ انهار معسكر جديلة وتقهقر الجيش إلى الخلف في اتجاه المنصورة وتولى الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري قيادة الجيش، فقام بترتيب خططه الدفاعية وأمر بمنع التجوال وتخفى الجنود في كمائن فيما لم ينتظر روبرت وصول لويس ومن معه، وشجعه النصر في جديلة على اقتحام المنصورة حتى يسيطر عليها. دخل روبرت المنصورة هو وجيشه فلم يجدوا أي مقاومة حتى وصلوا إلى القصر السلطاني، فأمر ركن الدين بيبرس قائد الجيش المماليك بالتحرك، فانقضوا مع القوات الأيوبية على الصليبيين وأنزلوا بهم هزيمة كبرى، وتتبعوا روبرت ومن معه، حتى عثروا عليه وأجهزوا عليهم جميعا، كما قتل أيضا سالسبوري قائد الفرقة الإنجليزية، لتصبح المنصورة مقبرة للجيش الصليبي. كان باقي الجيش الصليبي قد أوشك حينذاك على اجتياز البحر الصغير من دون أن يدري بما حدث في المنصورة، ولم يجد لويس مفراً من إقامة الجسر الذي فشل في إقامته قبل ذلك، ونجح هذه المرة في إقامة هذا الجسر، ودارت معركة عنيفة وعندما وصلت الإمدادات من مختلف جهات مصر ظهر تفوق المصريين، ما أدى إلى انهيار ميمنة جيش لويس الذي كان يقوده شقيقه شارل، كونت أنجو، وانتشرت الأمراض بين صفوف الصليبيين. في هذه الأثناء وصل توران شاه نجل الملك الصالح من الشام، وقرر محاصرة الصليبيين وقطع الإمدادات التي تأتي إليهم من دمياط، وبالفعل تم نقل أسطول من السفن على ظهر الإبل إلى بحر المحلة، وتم تركيبها وشحنها بالمقاتلين لتدخل النيل قرب شربين الحالية، حيث قامت بنصب الكمائن لسفن الصليبيين، وقد تمكنوا بالفعل من أسر 52 سفينة بمن فيها، وتلى ذلك أسر 32 سفينة، ونتيجة لذلك تعرض الصليبيون لخطر المجاعة. شعر لويس بخطورة الموقف، فقرر الانسحاب ثانية إلى بحر أشموم، وتعرضت قواته أثناء الانسحاب إلى خسائر رهيبة، فقرر فتح باب المفاوضات مع المسلمين على أساس أن ينسحب من دمياط مقابل الحصول على بيت المقدس، إلا أن هذا العرض جاء متأخراً بعدما علم المسلمون مدى معاناة الصليبيين، وفي صباح يوم 5 إبريل/نيسان من عام 1250، بدأ جنود لويس في التراجع نحو دمياط، فعبر خلفهم المماليك وأنزلوا بهم خسارة شديدة، وأضحى من الجلي عدم قدرة لويس التاسع على مواصلة القتال بعد أن أصابه الإعياء والمرض، فقاده أحد رجاله إلى كوخ بقرية ميت الخولي عبد الله، وبالقرب من فارسكور تم تطويق الجيش الصليبي فألقى الجنود أسلحتهم وتم أسرهم جميعا، وكان من ضمن الأسرى لويس التاسع ذاته، الذي سيق مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة حيث سجن في دار ابن لقمان، لتبدأ فرنسا مفاوضات الصلح مع السلطان توران شاه، في السادس من مايو/أيار عام 1250، وتسلم المماليك مدينة دمياط، ثم غادرها في الثامن من الشهر ذاته قاصداً مدينة عكا على ساحل فلسطين، وهكذا انتهت هذه الحملة التي حفلت بالكثير من الأحداث التي لم تشهدها حملة عسكرية من قبل. وتعد الغرفة التي شهدت أسر لويس التاسع من أشهر غرف دار ابن لقمان، التي تحولت إلى متحف، وتقع الغرفة في الطابق العلوي للدار، وهي تجاور حجرتين بالطابق الأرضي أسر بهما شقيقاه وبعض معاونيه، أما القسم الآخر فهو عبارة عن صالة تشتمل على بعض الأثاث الذي يستخدمه لويس وبعض الأدوات الحربية وتماثيل لكل من لويس وتوران شاه وشجرة الدر. ويضم متحف دار ابن لقمان العديد من المقتنيات التاريخية والصور الزيتية التي تحكي وقائع تلك المعارك الحربية الساخنة التي شهدتها مصر في ذلك الوقت وخاصة الحروب الصليبية.

مشاركة :