رواية "كان صرحًا من خيال" للصحفي والأديب لبناني الأصل/ سليم نصيب تتصل بسرد متخيل لمذكرات دونها شاعر الشباب أحمد رامي يصف فيه قصة محبته الكبرى لسيدة القصيدة العربية أم كلثوم. وقد رحب القراء والنقاد بالرواية، فقد كانت أم كلثوم وشاعرها الكبير أحمد رامي ظاهرة فنية وثقافية ومصرية صميمة. يصفها رجاء النقاشفي كتابه عنها "لغز أم كلثوم" ص 8 و 9: "نغمة صافية للحب والسعادة بالنسبة للشعب العربي كله على مدى نصف قرن كامل أو يزيد، أي منذ أن جاءت من قريتها "طماي الزهايرة" سنة 1923 وحتي وفاتها سنة 1975". وفي موطن آخر أنها: "من الشخصيات الكبري التي يمكن من خلالها أن نعرف الكثير عن أنفسنا وبلادنا وثقافتنا". لذلك لم يكن غريبا أن تأسس في الأدب العربي سرود تتصل بالشخصية الأسطورية، يتحدث الكاتب محمد حجيري بتصرف من حديثه: "عن مطربة عاشت عصراً بكامله، شغلت المحبين والمغرومين والسياسيين والباحثين والسينمائيين، فصوتها الذي أصبح علامة على عصر بأكمله. فهي تشكل جزءاً أساسياً من الواقع اليومي العربي، وبالتالي جزءاً من الرواية المصرية ... باختصار أحسب أن شخصية أم كلثوم تشكل مادة دسمة لكتابة الرواية، والكتابة عنها لا تزال في البداية" أما عن شخصية الرواية الآخرى والقائم بالسرد الذاتي فهو شاعر الشباب أحمد رامي ولد في القاهرة 9/8/1892، وتوفي عن عمر يناهز 89 سنة 1981، والذي التقي الفتاة أم كلثوم بمسرح الأزبكية سنة 1924 وعمره 33 سنة، بينما كان عمرها 26 سنة، واستمرت صلته المشهودة بها طوال أكثر من 50 سنة كما تقول الحقائق التاريخية. وكتب لها 137 أغنية من 283 أغنية هي مجموع ما شدت به، فقد كان شاعرها المفضل، أو كما تقول الرواية ص 140: "إنه شاعري يحترق لينير طريقي"، فكتب لها "أنت الحب"،"جددت حبك ليه"، "رباعيات الخيام"، "حيرت قلبي معاك"، "يا مسهرني"، "ذكريات"، "عودت عيني"، "غلبت أصالح في روحي"، وغيرها الكثير وفي الطبعة الرابعة عشر لرباعيات الخيام وردت ترجمة الشاعر الكبير: رامي حصد ليسانس المعلمين العليا 1914، ودبلوم مدرسة اللغات الشرقية بباريس 1924، وعمل وكيلا لدار الكتب المصرية 1954، ومستشارا إذاعيا، وأصدر ستة من الدواوين الأول 1918 والأخير 1965، ألف للمسرح "غرام الشعراء"، وترجم 15 مسرحية. وللسينما كتب أغاني العديد من الأفلام منها فيلمي "وداد" و "دنانير" و لصديقه عبدالوهاب كتب أغاني فيلمه "الوردة البيضاء"، وألف أكثر من 200 أغنية، كما حاز جائزة الدولة التقديرية 1967، وهو أول عربي ترجم الرباعيات عن لغتها الأصلية الفارسية، حيث أن الترجمات السابقة عنه كانت عن لغة وسيطة. وتصف الرواية ص 20 لحظة مهمة للمبدع رامي عند ترجمة الرباعيات: "تكون الرباعية قاب قوسين في المتناول ولكن مستعصية، وعندما تتكشف وتبذل معانيها، عندما تعثر موسيقاها علي إيقاعها العربي، أشعر أن انفعالا عمره تسعة قرون ينتقل إلى" أما عن مؤلف الرواية سليم نصيب: فهو صحفي لبناني غادر بيروت إلى باريسسنة 1969، عمل مراسلا صحفيا بفرنسا وجنوب أفريقيا واليونان، وكان مشغولا بالشأن العربي والقضية الفلسطينية خاصة. وقرر بعد سنوات من ممارسة مهنة الصحافة، أن يتفرغ لكتابة الروايات، لأن الروايه عنده تظل محتفظة بما يود الكاتب أن يقوله رغم مرور السنين، بعكس الصحافة، حيث الأدب يعتمد علي الاحساس لا علي التفسير علي حد تعبيره. نشر مجموعة قصصية، ثم رواية "مجنون بيروت" سنة 1993. أما روايته "أم" التي كتبها بالفرنسية فيتحدث عن ظروف تأليفها: "وبعد نشر "مجنونبيروت" وفي احدى السهرات، وضع احدهم أغنية لأم كلثوم، وخلال السهرة اتجه إلي بعض الفرنسيين الذين يعرفون إجادتي للغة العربية وسألوني: ماذا تقول؟ فبدأت اترجم لهم كلمات الاغنية، فقلت لهم إذا استطاع أحد تفسير العلاقة بين أم كلثوم وجمهورها، ساعتها سيستطيع فهم العالم العربي.انتهت السهرة، وفي اليوم التالي كان لديّ موعد مع الناشر، الذي سألني عما أنوي كتابته بعد "مجنون بيروت" فأجبته بنفس الاجابة التي قلتها للأصدقاء الفرنسيين عن أم كلثوم والعالم العربي، فوافق الناشر علي الفور. وبدأت مباشرة رحلة البحث والكتابة حيث ترددت علي مصر أكثر من مرة، واكتشفت أحمد رامي، واكتشفت أن علاقتة بأم كلثوم هي العلاقة الاكثر رمزية التي يمكن أن تلخص وضع أم كلثوم في الثقافة العربية، فهو يحبها، وهي لا تحبه، فيكتب حبه ومعاناته شعرا، وهي تغني ما يكتبه، وهكذا تنقل الي العالم كله وجع رامي، والجميع يتوجع معها في الظاهر، ومعه في حقيقة الأمر. وهكذا قررت ان احكي بصوت رامي" سارت الرواية في مسار خطي مشكل من أربعة أجزاء وخاتمة وبين الجزء والآخر فجوة زمنية، في 32 كتلة سردية مرقمة عبر الأجزاء والنهاية، وزمن السرد يستعرض 26 سنة من تلك العلاقة "العلامة" بين أم كلثوم ورامي، والتي امتدت لخمسين سنة. كما تشتمل الرواية علي محطات شيقة من الوصل والصد والصداقة والفريق والقرب والبعاد، والرأي الفني والطقس الاجتماعي والأحداث التاريخية المفصلية وصلتها ببطلي الرواية الشهيرين. كما وصفت الرواية صلة أم كلثوم بجمهورها عبر شواهد نصية دالة على طول الرواية وعرضها: "اللحن نسيج حريري يسعي إلى التجسد" ص 33 "بتصرف"، ويصف جمهورها في هذا العصر أنهم من: "صنف السميعه الأوفياء الذواقة" ص 34، "أنها كانت تقيم حوارا مع الجمهور ص 36 ، "لم تكن هي فقط من يرتجل، بل هي والجمهور مخلوق من رأسين" ص 36، "تبذل نفسها للجمهور بالكلية وكان يستجيب لها بعفوية لا توصف" ص 37 "بتصرف". وفي موطن روائي آخر: "مزاجها المرح الذي يشبه مزاج الجمهور أصبحت منه وله فتقبلها" ص 74 "بتصرف". وعن الانصهار بينها وبين جمهورها وتحرير الإلهام تقول الرواية ص 75: "وضع جمهور القاهرة لمساته الأخيرة علي الأغنية، احتضنها وأطلقها إلي الوجود" ويصف رامي ذاته و"أم" والجمهور بأنه ثلاثي مركب من كيمياء عجيبة. وفي موطن آخر: "روح الشعب تنبض علي وتائر صوتها" ص 204، "إنك تغنين قصائد أحمد شوقي والناس يسمونك راهبة الإسلام، الشعب يصغي إلى أغانيك طول الليالي تواسينه في بؤسه الأسود" ص 193. كتبت الرواية بالفرنسية بعنوان "أم"، وُترجمت إلى الإنجليزية والإيطالية بعنوان "أحببتك لأجل صوتك"، ثم ترجمها "بسام حجار" بعنوان "كان صرحا من خيال" وقد انتقد كتاب اختيار العنوان من قصيدة الأطلال دون قصائد الشاعر الذي كتب حوالي نصف ما غنته أم كلثوم، كما أنه السارد الرئيس في الرواية. لكن أرى أنه عنوانا فنيا في الأساس يعبر عن تأويل مترجم الرواية لقصدية الروائي، حتى لو كان العنوان منحوتا من قصيدة الأطلال. أما عنوان "أم" ذاته فأشارت له الرواية بأنها أم بلا ولد، وكيف تؤثر وتعبر عن شعبها والأمة. كما أن "سليم نصيب"لا يطلق على عمله مصطلح "رواية"، ويدون في الختام قوله "استوحيت فصول هذا الكتاب من قصته - أي أحمد رامي - غير أن المذكرات التي تشتمل عليها الصفحات هي مجرد خيال" ص303. وما نلاحظه هو المزج بين كلا من الأساسين المرجعي والخيالي معا، وحضور الأساس المرجعي ليس بصيغة توثيقية تسجيلية وإنمابتخيل فجوات الواقع ذاته التي لم ُتسرد لتأريخ وجداني للسيرة الغيرية. والاختيار الإبداعي من التاريخ لمادة الحكي يغلق أفق التوقع الدرامي للقراء في المباراة بين الكاتب والقارئ، والذي يعني أن القراء يعلمون مقدما مسار الحدث حيث تناولت عشرات الكتب والأعمال الدرامية والتوثيقية حياة وفن أم كلثوم وشاعرها الرائع رامي، بالتالى يلقي الروائي واحدا من الأسلحة الروائية المشهودة والسهلة، لذلك لزم التعويض الروائي من خلال المدفعية الشعرية الثقيلة والنبض الإنساني العميق. لكن في الوقت ذاته من يطالع الرواية يلم بجوانب من السيرة الغيرية بأسلوب سهل. ووقائع التاريخ والتي ضمتها الرواية بتأويل خاص بالروائي وفي الإطار الأسطوري لقصة العشق المعروفة من جانب رامي، حول حب لم يبدأ بالفعل لكن له قوة الحياة كما تقول الرواية. لكن التاريخ يذكر أن أم كلثوم اعتبرت رامي صديق عمرها، وأنه منحها أثمن ما يمكن أن يمنحه إنسان إلى آخر وهو الوقت. صالح جودت وصفه بحب الصيانة والحراسة لموهبة كبري، ورامي كان يصرح باستمرار أنه يراها مثل النيل والأهرامات، وأنه حب سامي وليس مثل الحب المعروف بين الشباب، ورامي نفسه يري أن أروع الحب هو الناشب عن الحرمان، ووصفه البعض بأنه "الحب المستحيل"، وبالفعل كان الحب الذي أثرى الفن ولولا استحالته ما تدفق فنا غامرا كان هو المقصود. الرواية نفسها تقول ص 40: "أجمل أدعية الحب هو دائما الحب المستحيل".وربما هذا يفسر العبارة الأخيرة في خاتمة الرواية ص 302: "الله وحده يعلم أننا حاولنا أن نلمح صورة هذا العالم، وأن نرتقي به صوب الشمس".
مشاركة :