بلغراد .. عتبة الحلم

  • 11/13/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بعد أن تجد نفسك في منتصف رحلة اللجوء متورطاً بالرحلة وبمحنها التي لم تعد تنتهي، لا تعود تفكر سوى بالسلامة و بالوصول خطوة تالية إلى اﻷمام فقط مهملاً هدف وصولك النهائي. في هذا الوقت، تولد بلغراد كحلم لا بد لك من أن تبلغه ليهدأ فيك كل هذا الخوف. ممَ تخاف؟... تسأل نفسك وتخجل أن تبكي وأنت تناظر وجوه رفاقك المنهكين في قطار مقدونيا - صربيا الشهير. ممَ تخاف؟... تكرر السؤال على روحك التي تحسبها ستخرج منك... والرعب يصهرها وأنتم محاصرون في هذا القطار منذ أكثر من عشر ساعات. ألم تقطع بحر إيجة ونجوت؟ ألم تلتف على الحدود اليونانية المقدونية ونجوت؟ تمرر رأسك عبر نوافذ القطار المتهالكة إلى السهول الصربية الواسعة. تتنقل من نافذة إلى أخرى كممسوس وتتمنى لو يقع بصرك على بشر عابرين، عابرين جداً، يشربون القهوة، يلاعبون أطفالهم، يهرولون إلى أعمالهم، بشر شاردين عن الحياة، ولا يعلمون شيئاً عن تلك البلاد التي تركتها خلفك، بشر نائمين عن القهر الذي يلفك ومن حولك بعد أن تحول قطاركم في غفلة غادرة سجناً تحاولون الفرار منه ولكن لا سبيل. تسمع رفاقك حولك يتحدثون: خدعنا، عندما حجزنا في جنوب صربيا إلى بلغراد حيث سنلتقي مهربّاً يتابع بنا إلى النمسا خدعنا موظف البطاقات وحجز لنا إلى الحدود مع هنغاريا لندخلها ويتم تلبيسنا تلك البصمة اللعينة التي يهابها كل اللاجئين. ولنزج في هذا القطار الذي لا يتوقف في أي محطة ولا نعرف متى يصل وجهته المقيتة. أصرف نفسي عن سماع حديثهم. أحاول أن أتفرس اﻷمر كحلم، ككابوس سأستيقظ في نهايته وأزفر نفساً وأقول: لقد نجوت. لن أتحمل كل هذا الذي يسيل من حولي وفي ذهني. حقيقة أهرب وأنا أداري كل هذا الوجع برؤوس أصابعي إلى نفسي وأعود إلى سؤال يأتيني من غرفة بعيدة مظلمة. ماذا فعلت ﻷستحق هذا كله؟ أهذي به صامتاً متكلماً. ولا جواب...لا أظنني فعلت شيئاً. قلبي أصغر بكثير من هذا القهر. أفترش أرض القطار رامياً نفسي تحت المقاعد علّي أقطع الوقت بالنوم، علّي أنام فاستيقظ من هذا الكابوس. عيون اللاجئين الجاحظة تصطحبني إلى محاولة النوم. لمَ نحن خائفون إلى هذه الدرجة كيف يعيش القتلة والإرهابيون الذين استباحوا بلادنا بلا خوف ونحن خائفون إلى هذه الدرجة. هل ارتكاب إثم الهرب يستحق هذا الخوف كله أم هو شعور الذنب تجاه من تركناهم خلفنا؟ أحصي النظرات وأحفظها وأهدهد لها ولي، علّي أنام. أنام ولا أستيقظ. استيقظ بعد ساعة على أصوات بعض اللاجئين يستميتون في محاولة خلع الباب على غرفة السائق ليوقفوا القطار قبل أن يصل الى حدود هنغاريا. لقد كرروا ذلك طيلة الليل بلا طائل. لا السائق يصغي إليهم ولا هم ييأسون حتى نقف في إحدى المحطات ويروح السائق. يشكون إلى الشرطة الصربية ويبدأ بعض اللاجئين برمي أنفسهم من نوافذ القطار، الواحد تلو اﻵخر. لقد باتوا حوالى عشرة، يصرخون: "لا نريد أن نذهب الى هنغاريا، لا نريد. أعيدونا إلى بلغراد" لتنهال الشرطة عليهم بالضرب وتعيدهم إلى القطار وهم يبكون. كانوا يبكون... أجل رأيتهم يبكون؟ لم يبكِ رجل رمى نفسه من نافذة القطار قبل قليل؟ لمَ؟... يهجم والد أحدهم عليه ليلومه: كيف ترمي نفسك من النافذة. ألم تفكر بي؟ لست وحدك في هذه الرحلة، عليك أن تعلم ذلك! أراقب هذا كله وأدوخ...وأروح أصرخ: يا الله... هذا كثير... هذا كثير يا الله... كثير... وأرتمي إلى أحد المقاعد هاذياً باكياً لتتعالى صرخات اللاجئين مطالبين بالنزول، فيصعد رجال الشرطة ويبدأون بضربهم يمنة ويسرة من دون وجهة ولا هدف وينزلون ليتابع القطار رحلته إلى وجهته غير مبالٍ بكل توسلاتنا. هكذا إذاً لا سبيل إلى الحلم. سنقضي ما تبقى لنا من عمر كما شاؤوا هم وكأننا لم نهرب ولم نقاسِ ولم نرمِ بكل ما نملك من أموال للمهربين. قبل حدود هنغاريا بقليل يتوقف بنا القطار ويفتح أبواب مقصوراته لننزل. ننزل لا ﻷننا نعرف وجهتنا أو ما ينتظرنا بل فقط لنحرر أنفسنا من قطار تحول سجناً. في أي رواية أو فيلم حدث شبيه كهذا؟ في أي كابوس؟ ﻷي شعب؟ أمام عربات القطار يفاجئنا رجال صربيون حليقو الرؤوس مع سياراتهم بأنهم يستطيعون إعادتنا إلى بلغراد ومن دون أن تدري الشرطة بنا ولكن بمبلغ مرتفع جداً. نوافق على الحال. لنتوزع في عرباتهم إلى بلغراد التي لا تبدو مبالية، لا بقصتنا ولا بقصص كثيرين من أمثالنا ممن سبقونا ويفترشون حدائقها في انتظار أن يتابعوا رحلتهم البائسة إلى الحلم.

مشاركة :