تواجه واشنطن اليوم تهديدين عسكريين خطيرين من قبل أعتى قوتين منافستين، إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، فما بين تهديد الصين، التي تحاصر سفنها وطائراتها المقاتلة تايوان، وما بين حشد روسيا لقواتها العسكرية على الحدود الشرقية لأوكرانيا، تقف واشنطن في موقف لا تحسد عليه، ومشكوك في قدرتها على مواجهته، في ظل ثنائية مصدريه وهويتهما. ولا يعد الانفجار العسكري مستبعدًا في الحالتين كلتيهما، فتتمثل استراتيجية روسيا الدفاعية بتوسع حدودها، لضمان أمنها، خصوصًا عندما يكون الحديث عن أوكرانيا الخط الدفاعي المهم بالنسبة إليها، بينما تنظر الصين إلى تايوان كجزء من أراضيها الوطنية، وتتمثل سياستها الدفاعية في شل قدرة عدوها على القتال، والتهديد بالهجوم أو الهجوم الفعلي على دول الغير من دون مسوغ قانوني أو مبرر منطقي رسختها الاستراتيجية الأمريكية عندما أطلقت حربها غير المبررة على الإرهاب، مطلع الألفية الحالية، والتي اعتبرت أفغانستان والعراق أهم ضحاياها. وغزت الولايات المتحدة أفغانستان عام 2003. وأسقطت نظام حكم طالبان، بحجة إيوائه ودعمه لـ«القاعدة»، التي وجهت إليها أصابع الاتهام في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بينما غزت العراق عام 2003. بحجة نيتها تدمير أسلحة الدمار الشامل فيها، فأسقطت حكم الرئيس صدام حسين، وأغرقت البلاد في فوضى لم تخرج منها العراق حتى اليوم، ومن دون أن تجد تلك الأسلحة التي خاضت حربها بحجتها. إن تلك الاستراتيجية الهجومية العسكرية غير المبررة لاجتياح أراضي الغير، هي التي شجعت الدول القوية الأخرى على انتهاجها لتحقيق مصالحها، والتي بدأت بغزو روسيا لجورجيا عام 2009. وتفسر مواقف روسيا والصين اليوم. صعدت الولايات المتحدة من لهجتها ضد الصين في قضية تايوان بعد أن وجهت استراتيجيتها الخارجية إلى مقاومة الصعود الصيني، وعلى الرغم من أن هذا التوجه قد بدأ في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وتصاعد في عهد الرئيس الأسبق دونالد ترامب، فإنه تبلور بوضوح في عهد الرئيس الحالي جو بايدن. أكد بايدن أن الصين منافس عسكري وجيوسياسي خطير، وخصم أساسي لواشنطن، وأنه لن يسمح للصين بالتفوق عسكريا على الجيش الأمريكي خلال فترة رئاسته، معتبرًا أن ذلك يمثل أولوية قصوى لإدارته. ودعا بايدن الممثل الدبلوماسي لتايوان في الولايات المتحدة لحضور حفل التنصيب، وهي المرة الأولى منذ عام 1979 التي يشارك فيها ممثل عن تايوان رسميا في حضور التنصيب الرئاسي. وفي تحول مهم آخر قال إيلي راتنر مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادي قبل أيام، إن تايوان عقدة مهمة ومرساة لأمن الولايات المتحدة في المنطقة، كما اعتبر دانييل كريتنبرينك مساعد وزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ، أن تايوان شريك مهم لبلاده، ناهيك على أنها ديمقراطية رائدة. يأتي ذلك التحول بعد أن كانت واشنطن تلتزم بردع أي هجوم صيني عليها، مع الإقرار بـ«الصين الموحدة»، وذلك منذ عام 1979. ما سمح بإقامة علاقات دبلوماسية وسياسية معقولة بين البلدين. وتكمن أهمية هذه التصريحات الجديدة في أنها توفر منطقا يسمح للولايات المتحدة بدعم فصل دائم لتايوان عن الصين، ومعارضتها لوحدة تايوان مع الصين، حتى وإن جاء بطريق سلمي، كما تؤكد الصين. وتصاعدت الأزمة الأوكرانية الأخيرة في أعقاب تقدم أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو قبل أسابيع، ورفض الحلف الانصياع للطلب الروسي برفض قبول عضوية أوكرانيا، معتبرا أن هذا الأمر يقرره فقط أعضاؤه الثلاثون. ونقلت روسيا 100 ألف جندي روسي إلى مناطق قريبة من الحدود الأوكرانية، وهو الحشد الثاني في هذه المنطقة خلال هذا العام، مشعلة فتيل الأزمة، مبررة تحركها بأنه يعكس حقها في الدفاع عن نفسها. لم تكتفِ روسيا بذلك، بل قامت أيضًا بإجراء اختبار لصاروخ مضاد للأقمار الصناعية، لصد أي محاولة غربية موجهة ضد أنظمة الأقمار الصناعية الخاصة بها، كما ثبتت أنظمة احتياطية أرضية، لتعطيل عمل الاتصالات والملاحة الغربية، عندما يقتضي الأمر. تطالب روسيا بضمانات غربية مكتوبة، لإغلاق الباب أمام انضمام كل من أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الناتو، خصوصًا بعد تقدم أوكرانيا مؤخرًا للانضمام إلى الحلف. وكان الحلف قد أصدر قرارا عام 2008 يسمح بانضمام هذين البلدين إلى عضويته. وتعتبر روسيا أن تقدم أوكرانيا للانضمام للحلف يهدد أمنها، لأنه يوسع التكتل العسكري للحلف شرقًا بالقرب من حدودها، كما يفعل العمل بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، والذي يعتبر الاعتداء على أحد أعضائه، اعتداءً على جميع أعضاء الحلف. وتعتبر روسيا ذلك التطور انتهاكا للمبدأ الرئيس لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والذي تنضوي في إطاره دول القارة، والمتمثل في: «عدم تعزيز أمن أي دولة على حساب أمن الدول الأخرى». ليس من المتوقع أن يكون هدف فلاديمير بوتين الرئيس الروسي إشعال حرب حقيقية في المنطقة، والتي قد ينتج عنها قطع علاقات بلاده مع الغرب، واحتمال مواجهة الجيش الروسي لمقاومة وحرب عصابات في الجزء المنوي احتلاله، ناهيك عن إمكانية استضافة الأراضي غير المحتلة من أوكرانيا لقوات حلف الناتو، إضافة إلى إمكانية تطوير قدرات الحلف العسكرية، كما حدث في عام 2014. ويفضل بوتين الحصول على تنازلات أمريكية غربية تتعلق بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، من دون حرب. { كاتبة من فلسطين
مشاركة :