كما كان متوقّعًا، لم يتأخر تنظيم داعش في إعلانه «مسؤوليته» عن مجزرة باريس الجماعية. ليل «الجمعة 13» من نوفمبر (تشرين الثاني) 2015.. تاريخ لن ينساه الفرنسيون. وأزعم أيضًا أنه لن ينساه كل مسلم وعربي في فرنسا، وكل سوري ينتظر شيئًا من العدالة ورفع الظلم. المجزرة الجماعية الرهيبة التي قتلت وجرحت مئات الأبرياء تندرج ضمن «المنطق المقلوب» لجماعة مشبوهة الغايات، فظيعة في اختيار أهدافها، وأفظع في توقيت جرائمها وتنفيذها. هذا «المنطق المقلوب» لا يؤذي إلا أولئك الذين يزعم الدفاع عنهم والانتقام لهم، ولا يخدم إلا مصلحة مَن يدعي أنهم العدو المطلوب الانتقام منه. وحقًا، إذا راجعنا ما فعله «داعش» حتى اللحظة نجد أنه في العراق، كما في سوريا، كانت الضحية الأبرز للتنظيم - إلى جانب الأقليات الدينية والمذهبية البريئة والمعزولة جغرافيًا - البيئة العربية السنّية في شمال العراق وغربه وشمال سوريا ومدنها الكبرى، التي دمّرها «داعش» سياسيًا واقتصاديًا وديموغرافيًا. هذه البيئة العربية السنّية «تشابكت النصال عليها» - كما قال أحد أكبر شعراء العراق المعاصرين - آتية من مخطط إيران التوسّعي الإيراني، ومشروع الأكراد الانفصالي، وتغطية روسيا الكاملة للفتنة الطائفية التي أشعل فتيلها نظام دمشق ورُعاته، وغضّ الطرف عنها إسرائيليًا وأميركيًا وأوروبيًا.. باستثناء فرنسا. نعم، فرنسا، الدولة الأوروبية الأجرأ والأصدق في دعم انتفاضة الشعب السوري، والأشدّ إصرارًا على إبعاد بشار الأسد عن السلطة، والأقوى دعمًا للشرعية في اليمن. مع هذا، كانت فرنسا، ولا تزال، الهدف الأول لـ«داعش». فقط وفق «المنطق المقلوب» الذي يعتمده «داعش»، من دون الخوض بعيدًا في «نظرية المؤامرة»، يبدو اختيار فرنسا منطقيًا جدًا. أولاً، فرنسا دولة كبرى في قلب أوروبا كانت في طليعة مؤسّسي الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتعيش فيها أيضًا أكبر جالية عربية ومسلمة - لا سيما من أصول أفريقية - في القارة. وبناءً عليه، إذا كانت الغاية زجّ الإسلام كدين عالمي في حرب انتحارية مع الغرب، بل البشرية جمعاء.. فهي هدف مناسب. ثانيًا، توجد في فرنسا أحزاب يمينية متطرّفة قوية تنافس على السلطة، وتزداد شعبيتها كلما تشدّدت في عدائها للعرب والمسلمين. وهكذا، فهي تشكّل «صاعق التفجير» المثالي للتعجيل في هذه الحرب الانتحارية العبثية التي يسعى إليها خطاب «داعش». والبديهي أن مخطّطي مجزرة باريس يدركون مُسبقًا التداعيات السياسية والمعيشية والثقافية المحتملة لفعلتهم، ولكن في حساباتهم أنه كلما جاءت ردة الفعل العنصرية أشد وطأة على عرب فرنسا ومسلميها.. كثرت في صفوفهم الشراذم الناقمة والحاقدة التي سيسهل تجنيدها في المعركة الكبرى التالية. ثالثًا، إن كان لا بد من الخوض في «نظرية المؤامرة»، فليس لنا إلا أن ننظر إلى الجهة المُستفيدة من توقيت المجزرة. المجزرة ارتكبت قبل ساعات معدودات من انطلاق «لقاء فيينا 2» المنعقد لتسوية الأزمة السورية. ثم إنها، بعنفها وبشاعتها، تخدم بالدرجة الأولى أولئك الذين أصرّوا طويلاً، وما زالوا يصرّون، على تحويل اللقاء بعيدًا عن حل سياسي في سوريا يستند إلى إبعاد بشار الأسد عن السلطة في دمشق. ومعلومٌ أن روسيا وإيران، حليفي النظام السوري، ما زالتا تدفعان للتعامل مع الأزمة السورية فقط على أساس أنها «حرب على الإرهاب»، وتريان الأسد شريكًا فيها. ومع تسرّب كلام من باريس عن هتاف أحد الإرهابيين القتَلة باسم سوريا، ثم العثور على جواز سفر سوري (بإمكان أي كان شراء جواز مزوّر) قرب جثة إرهابي آخر، يظهر أكثر فأكثر مدى الحرص الاستخباراتي المشبوه من قِبَل مخطِّطي المجزرة على لصق تبعات المجزرة بثورة الشعب السوري وهي المرتكبة من دون استشارته. رابعًا، عمليات بحجم مجزرة باريس وبدقة إعدادها لوجيستيًا تُلغي اعتبارات السذاجة أو الغباء على مستوى القيادة، حتى لو كانت العناصر المُوكلة بالتنفيذ مغسولة الأدمغة وممسوحة الهوية ومسلوبة الإرادة إلى درجة قبولها بأنها تغدو مجرّد قنابل بشرية. فهنا نحن أمام شبكة منظمّة جدًا تقودها مرجعيّات محنّكة ذات دراية تضبط إيقاعها وتدير ميزانياتها المالية.. ولا تختلف عن الشبكة التي تتولّى الاتجار بالنفط والآثار، وتشتري شاحنات الـ«تويوتا» الجديدة اللمّاعة والأسلحة المتطوّرة، وتتولّى التهريب والتدريب والإعلام والنشر. وبالتالي، فإن الحرب على «داعش» إذا كانت جدّية حقًا ستحتاج إلى استراتيجية تختلف تمامًا عمّا ألفناه حتى الآن. والدور المشبوه الذي ترسمه تحرّكات «داعش» ومعاركها الحقيقية والوهمية يستحق أن يواجه بطريقة تلتزم روح التصريحات الدولية، لا بالتواطؤ مع الحقائق المأساوية التي يفرضها التنظيم على الأرض برسمه حدودَ تقسيمٍ مخيفٍ سيلغي عاجلاً أو آجلاً كيانات المنطقة، ويؤسّس لفتن ومحن لا تنتهي. إن مجزرة باريس، وما يمكن أن ترتكبه «خلايا نائمة» أو «ذئاب منفردة» في أوروبا أو أي مكان من العالم باسم الإسلام أو سوريا أو أي ذريعة أخرى، محطة مهمة جدًا في الحرب على الإرهاب. غير أن من واجب أي محلل جادّ التأمل مليًّا سوابق عديدة في هذا المجال. وفي لبنان، بالذات، أبلغ النماذج على ذلك. فالتفجيرات والعمليات الإرهابية المماثلة التي اكتُشف مرتكبوها أو مَن حاولوا ارتكابها - من مختلف الطوائف الدينية - كانت على صلة بأجهزة استخباراتية، ولعل أشهرها ما عرف بـ«قضية أحمد أبو عدس» لتضليل التحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري، وقضية الوزير السابق ميشال سماحة المتصلة بتفجيرات واغتيالات سياسية تهدف إلى فتنة طائفية.. وتبيّن أن أصابع استخبارات النظام السوري وراء القضيتين. واتصالاً، بالفرز الطائفي وما يوحي بخرائط جديدة للمنطقة، ثمّة من يربط اليوم تفجيرات لبنان، وآخرها عملية برج البراجنة، بمشروع بعيد المدى يشمل تهيئة الجو لتهجير بلدات سنّية تعطّل جغرافيًا رسم تلك الخرائط. وهذا ما يفضحه دور إيران في سعيها لفرض التبادل السكاني السنّي - الشيعي بين الزبداني وبلدات ريف دمشق الغربي والجيوب الشيعية في محافظتي إدلب وحلب. «داعش».. ومَن صنعها واستغلها وَجهان لعملة واحدة!
مشاركة :