نُشرت سلسلة «هاري بوتر» الشهيرة بين 1998 و2007، ووجد الباحثون أنّ نسبة القراءة عند الناشئة زادت خلال هذه الفترة بسبب هذه القصص، كما وجدوا بعد تحليل المفردات الموجودة في السلسلة أن هذه الكتب تحتوي تقريباً على كلّ المفردات الأكاديمية التي يحتاج إليها الطالب للنجاح في حياته المدرسية، وبغضّ النظر عن رضانا الثقافي عن هذه السلسلة، لكن النتائج ترينا أهمية خلق بيئة ومحتوى يشجعان على استخدام اللغة، ويشجعان الطلاب على القراءة والكتابة. من جهة أخرى، استطاعت مقاطعة «سوربال» في البرازيل أن تتفوّق على كل المقاطعات الأخرى في نتائج الطلاب من خلال خمسة تغييرات أدخلتها على التعليم ما بين 2005 واليوم، حيث عمل المسؤولون عن التعليم في المقاطعة على التركيز على التقييم المستمر لمهارات الطلاب، والتركيز على القراءة والكتابة في المرحلة الابتدائية، وتدريب المعلمين ومديري المدارس، وجعل الزيارات الصفية المستمرة جزءاً من تدريب المعلمين، وإدخال التكنولوجيا إلى المدارس وإعطاء هذه المدارس الحرية مع تقييمها المستمر وتمويلها بناء على أدائها السنوي، فكان أن تفوق طلاب هذه المقاطعة، وأثبتوا أن تطوير التعليم ليس سحراً، وإنما مجموعة عوامل تحتاج إلى رؤية، وعمل مشترك وإلى شيء من الابتكار والحرية. عين الصقر وعين الدودة ولكن ماذا عن تعليم اللغة العربية وتعلّمها في الوطن العربي الذي برغم كل الميزانيات والمارد والمصادر المتوفرة ما زال متعثراً، ولا يرقى للمستوى المطلوب؟ * أولاً: لماذا نحتاج إلى رؤية الأشياء بعين الصقر وعينِ الدودة؟.. الرؤيةُ بعينِ الصقر هي رؤيةٌ بانورامية، تنظر من أعلى للعالم من حولها.. ترى المنظر العام للأشياء، لكأنها خارطةُ الأشياء.. نحتاج هذه الرؤيةَ وخاصةً في جامعة الدول العربية وأماكنَ صنعِ القرار السياسي والاقتصادي لأنها تساعدنا على رؤية من 360 درجة، فاللغةُ العربية اليوم بحاجة مثلاً إلى سياساتٍ لغويةٍ وتخطيط لغوي، كما هي بحاجة إلى تشريعات وقوانينَ، فرؤية عينِ الصقر ترينا الحاجةَ إلى ربط اللغة العربية بالقوة الرمزية وبالاقتصاد، ونحن اليوم بحاجة إلى برامجَ جامعيةٍ مختلفةٍ لإعداد معلمي اللغة العربية والمتخصصين بها، وبحاجة لمناهج تدريسٍ مختلفة، وبحاجة لتخفيف الرقابة على دور النشر، كما نحن بحاجة إلى إعلام ووسائلِ تواصلٍ اجتماعي وأدوات ذكاء اصطناعي تعمل كلها لأجل رؤية واضحة للغة العربية. لكننا بحاجة كذلك إلى رؤية عين الدودة، فالدودة ملتصقة بالأرض، ترى التفاصيل عن قرب وبدقة، كما ذكر الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد عام 2006 محمد يونس، هناك اليوم حوالي 100 مليون طالب عربي قي التعليم المدرسي والجامعي، فالتركيز عليهم بعين الدودة مسألة مهمة لأن الأرقام تتكلم وتحكي حكاية وتعني شيئاً. فقرِ التعلّم * ثانياً: نحن في حاجة إلى الشجاعة الموجعة أحياناً لرؤية الأشياء كما هي لمواجهة واقع اللغة العربية في التعليم مستندين إلى الأرقام والأدلة.. تشير إحصائياتُ البنك الدولي إلى أن سنواتِ التعلّمِ الحقيقية التي يحصل عليها الطلاب خلال اثنتي عشرة سنة في التعليم العام لا تتعدى السبع سنوات ونصف السنة، وذلك بسبب نوعية التعليم وجودته، يعني بالإجمال الطالب الذي يذهب إلى المدرسة 12 سنة لا يتعلم إلاّ بمقدار سبع سنوات ونصف السنة في المنطقة العربية عموماً. وتشير أيضاً إحصائياتُ البنك الدولي (2019 و2020) إلى أن معدلَ فقرِ التعلم، ويعرّف فقر التعلم على أنه عدم مقدرة الطلاب ممن هم في سن 10 على قراءة نص من مستواهم الصفي وفهمه، فإذن معدلُ فقرِ التعلّم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 62% ويرجّح أن تزيد هذه النسبة إلى 72% بسبب جائحة كورونا. كما أنّ فجوة فقر التعلّم بين الذكور والإناث في منطقتنا العربية هي الأعلى في العالم وتتصدرها المملكة العربية السعودية، حيث تتفوق الإناث بشكل متكرر على الذكور ما يعني أننا بحاجة إلى سياسات تربوية وبحوث وفهم دقيق لهذا التحدي، مما يعني أنه لا بد من العمل على تحديث التمدرس بما ينتبه لهذه الظاهرة الخطيرة التي لو استمرت فستؤثر على المجتمع، على نسب الزواج والطلاق، على نسب البطالة الذكورية، وعلى الاقتصاد العربي عموماً والصحة النفسية للمجتمع. نعرف أيضاً من البحوث العالمية أن ¾ الطلاب الذين لا يتقنون القراءة مع بدايات الصف الرابع الابتدائي فإنهم يكونون من المتعثرين علمياً في المرحلة الثانوية، وفي نتائج الاستبيانات واستطلاعات الرأي التي أجراها تقرير حالة اللغة العربية ومستقبلها الصادر ديسمبر الماضي عن وزارة الثقافة والشباب، عرفنا أنّ 83% من الشباب العربي يرى أن اللغة العربية من أجمل اللغات..وأن 95% من الشباب العربي يرى أن على الحكومات العربية أن تعمل أكثر لتعزيز مكانة اللغة العربية.. وأن 53% من الشباب يرى أن السبب في أزمة اللغة العربية هو طرائق تدريسها.. و94% منهم يرى أن النقاش والحوار في صف اللغة العربية يساعدهم على تعلم اللغة.. و93% منهم يرى أن استخدام نصوص معاصرة وذات علاقة بحياتهم وأحلامهم يساعدهم على التعلّم.. وأن 50% منهم يشعرون بالقلق عند التحدث بالفصحى.. ولدينا كذلك نتائج الدول العربية التي يأخذ طلابها اختبارات القراءة والفهم القرائي العالمية مثل اختبار «بيرلز» و«بيزا»، وكل دولنا هي دون المتوسط العالمي في الفهم القرائي. يعني نحن تقريباً لا نفهم ما نقرأ. شجاعة وعِلم * ثالثاً: في الشجاعة والعلم لتبني رؤية جديدة لتعليم اللغة العربية هناك جملة تقول: التعليم الجيد مكلف، لكن التعليمَ السّيئ مكلف أكثر. لذلك نحن بحاجة إلى شيء من شجاعة وعِلم بما يجري في تعليم اللغة العربية اليوم، كي نتمكن من طرح حلول لا تشبه ما كررنا عمله لعقود من الزمن.. تكرار نفس الطرائق والأفكار والمناهج والأدوات وتدريب المعلّمين لرفع جودة التعليم هو ضرب من ضروب الجنون التي لا فنون فيها.. ماذا لو فكّرنا بحلول واقعية ممكن أن نطبّقها مستقبلاً لو كانت هناك إرادة عربية سياسية وتكتّل واع حولها. السنة المدرسية عادة تتألف من خمسة وثلاثين أسبوعاً إلى أربعين أسبوعاً باختلاف نظام التعليم والبلد، مع حصة لغة عربية واحدة تقريباً، أي بمعدل 180 ساعة للغة العربية سنوياً.. فماذا لو جعلنا حصة اللغة العربية 90 دقيقة يومياً، كما ينبغي لها أن تكون؟.. ماذا لو لم نستخدم المناهج المعمول بها حالياً؟، ماذا لو وضعنا الكتب المدرسية جانباً؟، ماذا لو لم ندرّس اللام الشمسية والقمرية والتاء المفتوحة في الاسم الثلاثي الساكن الوسط لوهلة؟.. ماذا لو وضعنا كتب التدريبات والأنشطة جانباً، وقضينا الـ 180 ساعة أو أكثر نقرأ ونناقش كتباً من أدب الأطفال والناشئة بشقيها الخيالي والمعلوماتي في المراحل الابتدائية، ومن عيون الكتب في المرحلة الثانوية؟.. ماذا لو كان كل ما يفعله الطلاب في الحصة هو القراءة والكتابة والنقاش عن القراءة؟، لا دورَ للمعلم إلا ليجيب عن بعض أسئلة ولإدارة التعلّم.. ماذا لو تعلمنا الفصيحة من خلال ممارستها كل يوم عوض أن نتعلّم عنها نظرياً؟، ماذا لو تحدّثنا عما قرأنا يومياً وأمام جمهور من الأقران في الصفوف؟.. ألا ينقذنا هذا من القلق الهائل الذي يسكن معظم العرب عندما يطلب منهم التحدث بالفصيحة؟ اللغة لا تُكتسب إلا عندما نعطي الطالب مدخلات مفهومة في كتب ماتعة، يعني ببساطة كتب مكتوبة ببساطة دون فذلكة ودون استعراض عضلات من الكتّاب، عن مواضيع ماتعة للصغار والناشئة وليس عن مواضيع نحبها نحن.. ماذا لو كانت الكتب والنصوص التي يقرأها كل يوم طلابنا تحكي عن قصصهم، عن ثقافتهم عن الصقارة، عن الخط العربي عن الموسيقى العربية ومقاماتها، عن الأزياء الشعبية، عن القهوة العربية، عن فكرة المجلس، عن التجار والنواخذة، عن التطريز الفلسطيني ونسيج السدو، عن الأكل العربي، عن الشعر، عن الدبكة والعرضة ورقص الصعايدة.. ماذا لو انخرطوا في العمل مع مؤسسات الإعلام.. على دوبلاج الأفلام والمسلسلات بالفصيحة؟ وماذا لو قام الطلاب بإضافة محتوى عربي رصين إلى شبكة الإنترنت والعمل على منصات نحتاجها؟ ألن يتعلموا أكثر وينتجوا أكثر وينخرطوا باللغة العربية أكثر؟.. ما الذي يحول بيننا وبين جعل كلّ ذلك حقيقة؟.. ماذا لو كانت الواجبات قراءةً وجذباً لأولياء الأمور لهذا العالم كذلك؟.. هذا هو الغمر باللغة العربية والانغماس الحقيقي في اللغة وليس عنها، أن نعرفها كما نعرف وجوهنا عوض عن أن تكون الفصيحة غريبة عنا، غولا نتصبب عرقا أمامه، وصعبة وغير متاحة.. نحتاج إلى شيء من العزيمة والجرأة كي نبدأ بالتفكير بشكل مختلف وعلمي والتصرف بشكل عصري وبشكل أمين على الثقافة، وبشكل علميّ إزاء تعليم اللغة العربية وتعلّمها. أستاذ كرسي اللغة العربية بجامعة زايد
مشاركة :