احتلت قضايا الترجمة حيزاً مهماً في المعرض، حيث استضافت فعاليات المعرض عدداً من الندوات لمناقشة قضايا الترجمة وتحدياتها في العالم العربي وسبل النهوض بها، ودورها في تعزيز الثقافة وتأكيد الهوية. أكدت هذه الندوات أهمية الترجمة والدور الذي تلعبه في تقدم الشعوب والمجتمعات، فهي مرآة عاكسة لحال الأمة وميزان دقيق يكشف عن نهضتها بسبب ما توفره من حراك ثقافي ومعرفي. فضلاً عن ضرورة هذا الجانب الإبداعي، الذي يفتح على العالم حواراً فكرياً وفلسفياً وجمالياً مشتركاً. أما عن الترجمة الأدبية المتخصصة في العالم العربي لفنون الشعر والقصة والرواية، فيؤرخ لها منذ بداية القرن العشرين، على أن هذا الجهد الأدبي الخاص استمر متعثراً نظراً لقلة عدد المترجمين المؤهلين البارعين والعارفين بخفايا اللغة المنقول عنها، والواعين للغتهم الأم، وقد سلطت النقاشات الضوء على واقع الترجمة في حيزها العربي بوصفها نشاطاً ثقافياً يعاني مما تعانيه الثقافة التي تسجل تراجعاً يطال المؤسسات العلمية والأكاديمية والجامعات، إضافة لافتقاد الجهد الاحترافي في الترجمة، وإحجام الناشرين عن الترجمة بسبب ارتفاع كلفتها المادية. كما أشارت النقاشات إلى غياب مشروع قومي للترجمة على مستوى الوطن العربي، في ما عدا بعض التجارب المضيئة في عدد قليل من الأقطار العربية، كما هو الحال في الإمارات العربية المتحدة التي تخصص ميزانيات مرتفعة لدعم هذا التوجه، عبر المبادرات الحكومية التي أقيمت كمشروعي كلمة وترجم. كما أن المترجم هو في الغالب خريج لغة أجنبية إنجليزية أو فرنسية، مما ينقص من قدرته على التعبير الصحيح والدقيق في اللغة العربية، وهنا تبرز الحاجة إلى محررين لغويين يساعدون في نقل المصطلح ومقابله إلى العربية، ومن الإجحاف هنا لوم المترجم وحده، فالترجمة كمعرفة تحتاج إلى جهد مشترك من البحث والتقصي، وترجمة موضوع متخصص في منهج أدبي كالبنيوية أو التفكيكية على سبيل المثال يحتاج إلى فهم المصطلحات في لغتها الأم قبل نقلها إلى العربية. ومن جهة أخرى تناولت هذه الجلسات الفكرية مسألة الفروقات الجوهرية بين اللغات، ومنها ما يتعلق بدراسة معاني الكلمات التي تحمل أكثر من دلالة وتلميح، والكلمات الغامضة، وتلك التي لا يمكن ترجمتها خارج النص الأصلي، و ما يتعلق باللغة العربية نفسها التي تحمل بعض كلماتها معاني متشابهة، وهو ما يطلق عليه الترادف في الجملة الواحدة، وهذا السياق ليس موجوداً في اللغة الإنجليزية على سبيل المثال، فضلاً عن مشكلة الاختلافات القاموسية أو التي لها طرائق عديدة في استخدام الملحقات والحروف الزائدة. وناقش المختصون الصعوبات الماثلة في ترجمة الشعر من اللغات الأوروبية كالإنجليزية والفرنسية وغيرهما إلى العربية والعكس صحيح، فمن المعروف أن لغة الشعر هي لغة رفيعة المستوى، تبحث في ما وراء الكلمات المكتوبة في غالب الأحيان، وهي تعتمد منطق التراسل الذهني والدفق الشعوري الواعي وغير الواعي، كما أنها لغة مكثفة فيها قدر كبير من التصوير، وتحتاج إلى وعي خاص وملكات كبيرة عند المترجم، تمكنه من تصيد المعنى المضمر في النص. ومن القضايا المهمة التي تم طرحها، قضية النقص الحاد في ترجمة الأدب الآسيوي إلى العربية، على الرغم من القرب الجغرافي، والاحتكاك التجاري لقرون طويلة مع الهند وآسيا الوسطى وحتى الشرق البعيد، فالكثير منا لا يعرف شيئاً عن طبيعة هذه البلدان من الناحية الاجتماعية، نتيجة غياب منجزهم الثقافي من رواية وشعر وقصة عن القارئ العربي، وما وصلنا حتى الآن من آداب هذه المنطقة يعد على الأصابع، كالشاعر الهندي رابندرانات طاغور، والشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف. وتمت الإشارة إلى كم المغالطات التي تحتويها الكثير من الترجمات العالمية والعربية نتيجة عدم الفهم العميق والكافي من قبل المترجم لطبيعة المجتمع الذي تدور فيه أحداث الرواية أو القصة. فالمترجم يجب أن يكون على درجة عالية جدا من فهم اللغة، ومن فهم الثقافة التي أنتجت هذه اللغة، وعليه أيضا فهم المحركات الرئيسية لدى الكاتب، فهو كالزجاج الشفاف الذي يستطيع المتلقي من خلاله قراءة العمل بروحه الأصيلة في المعنى واللغة، وإذا لم تتحقق هذه الشروط فإن العمل الأدبي سيفقد الكثير من عظمته. وتناولت إحدى الحلقات النقاشية أهمية الترجمة ودورها الكبير في التعريف بالأديب ومنجزه الإبداعي، حتى يصل هذا المنجز كل أرجاء المعمورة ويطلع عليه القاصي والداني. حيث كان للترجمة الفضل في التعريف بحضارات بأكملها، كالحضارة الفرعونية التي لم تٌعرف الكثير من أسرارها إلا في القرن التاسع عشر، مع اكتشاف حجر الرشيد الذي كان مكتوبا عليه بثلاث لغات ومنها اليونانية، وعن طريق الترجمة استطاعوا فك الرموز والشفرات الخاصة المكتوبة، والتي كشفت الكثير عن هذه الحضارة، كما أنه بعد ترجمة الأدب الروسي أصبح العالم كله يقرأ هذا الأدب ويطلع على نتاج عظمائه ويتعرف الى حضارته، وبفضل هذه الترجمات أصبح الأدب الروسي أحد المفاصل الرئيسية في الأدب العالمي. وتعد ملحمة الإلياذة والأوديسة أحد أهم الأعمال الأدبية التي غيرت تاريخ اللغات الأوروبية كلها حيث أصبحت شخصياتها عناصر رئيسية في الأعمال الأدبية، وهذا ما كان ليتم لولا الترجمة. وتعد الترجمة الحرفية للنص، أضعف الترجمات، لأنها تتحول من فعل ثقافي إلى نشاط تقني ونسخ لغوي يعتمد المنطلق القاموسي للغة الوصول فيتم إنتاج النص المترجم. وتكتسي الترجمة المعرفية بعداً حوارياً مع ثقافة الآخر، حيث تقدم نفسها كمشروع منهجي، يتم عبره خلق قناة حوارية مع النماذج المعرفية الأخرى والاستفادة من معطياتها الفكرية والمفاهيمية والمنهجية. ولهذا، كثيرا ما تتحكم في هذه الترجمة المقاربة التبسيطية، لأنها تتجه نحو أفق معرفي محدد،غايته ترجمة مؤلفات تعريفية بمذاهب أدبية ومدارس نقدية. وعلى مستوى الوعي تقدم الترجمة الأدبية نفسها كمشروع فني جمالي، لأن الغاية من الترجمة هي إغناء النماذج الأدبية في لغة الوصول بوعي جمالي أفرزته النصوص المترجمة في بيئتها الثقافية الأصلية. ولعل الوعي الجمالي هو ما عجل بترجمة الكثير من النصوص الأدبية إلى اللغة العربية، خاصة أقوى النماذج وأكثرها تعبيراً عن رؤية جمالية حديثة.
مشاركة :