ماري منيب.. تخرج من الشاشة لتمثل في بيتنا

  • 1/4/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لم تسترح ولم تسترخِ أجسادنا الطفلية الملحية السمراء قليلا من بعد التجوال في أحياء الرفاع وأزقتها منذ الصباح وحتى أول المساء أملا في الحصول على عيدية الأضحى المبارك المتواضعة التي ستتلذذ أفواهنا من خلالها بالآيسكريم المثلج وبالكعكة المطرزة بحبات الفول السوداني، والتي ستستمتع بها أيضا عيوننا التي ستتقنع فرحا بالنظارات البلاستيكية الملونة، وأيادينا التي ستقتني في هذا اليوم أجمل النبال الصغيرة البلاستيكية والجلدية التي كنا نطلق عليها (فلاتيات)، حيث نحشر أصغر الحصوات في القطعة الجلدية الخشنة المعدة للرمي والتي تتوسط خيطين جلديين مطاطين قابلين للتمدد، ونسحبها بعد أن نمسك زنادها بيد، نسحبها بالإبهام والسبابة معا إلى أقصى الخلف قريبا من الصدر، ثم نتركها تنفلت بقوة نحو زجاجات صغيرة أو علب معدنية مستطيلة نضعها أمامنا بمسافة لا تقل عن السبعة أو العشرة أمتار علنا نصيب الهدف، وإذا اشتعلت روح الشقاوة في بعضنا، وجه هذا السهم الحجري نحو بعض الطيور أو العصافير المندسين أو الآمنين بين أغصان الشجر أو على أعمدة الكهرباء أو فوق جدران البيوت، وكم كنت أتألم وأعاني عندما يتوجه الهدف نحو طائر الحمام فيصيبه بمقتل أحيانا، فللحمام في حياتي مكانة القلب والروح، لأنني عشت بينهم في بيتنا الكبير بجوار الجد علي بن أحمد بن حمدان الذي يملك أفضل وأندر أنواع الحمام في الرفاع الشرقي آنذاك، إلى درجة أصبحت فيها جدران البيت بيوتا ومحميات للحمام، وكم أصابت هذه الحصوات عن طريق الخطأ بعض المارة في الحي لتشتعل بعدها مشكلة أخرى يكون هدفها مصوبا نحو من ارتكب الخطأ من الأطفال إذا لم يكن قد نجا بنفسه بالهرب قبل أن تلمحه عيون المجني عليه. لم تسترحِ هذه الأجساد ولم تسترخي قليلا، حتى تنتشر الأخبار بعد يوم أو يومين من قدوم عيد الأضحى بوصول الحجاج من مكة المكرمة، وكم كنا حينها ننتظر هذه اللحظة ليبدأ معها عيد الفرح الحقيقي وعيد اللعب الممتع والغريب، حيث كنا ننتظر أجمل الهدايا منهم، ومن بينها المسدسات والسيوف البلاستسيكية الملونة الصغيرة التي تحول الأحياء إلى ساحة معركة بين الأطفال يموت بعضهم ويحيا بالاتفاق مع زملاء اللعبة، ومن بينها أيضا الطاقيات المطرزة بالزري (القحافي) والتي يودعها بعض أولياء الأمور لديهم ليوم (ختمة) القرآن، أي إكمال قراءة سوره كلها، حيث يُزيّن بها رأس (الخاتِم)، ومن بين هذه الهدايا أيضا، المناظير البلاستيكية الملونة الصغيرة التي ندس أعيننا في عدساتها لنرى عبر محرك أو ضاغط أو مجس صغير صورا لمكة المكرمة والحجاج وعين ماء زمزم وجبل عرفة، وكانت حينها فرحتنا لا تضاهى بالحصول على مثل هذا الفانوس السحري الصغير، ولعل أول منظار تحصلتُ عليه كان من جدتي الكبرى نورة بنت عبدالله، وأعتقد أني حينها لم أتمكن من النوم لشدة انشغالي بهذا المنظار العجيب، صحيح أن الصور التي في المنظار لم تتحرك، ولكني كنت أتخيلها تحيا في مخيلتي، خاصة وأن الجدة نورة كانت تسرد لي بالتفصيل مختلف مناسك الحج، من أين تبدأ وكيف وإلى أين تنتهي، وما هو الغريب والعجيب فيها، فأحيا عبرها زمنا مختلفا أتخيل أحداثه تجري أمامي، وكانت قبل أن أنام بجوارها تسقيني من ماء زمزم المعبأ في علب معدنية يتوسط مقدمتها قمع صغير للشرب، وهي تقول: هذا الماء مبروك، اشربه يبارك الله فيك. أشرب الماء ولكن المنظار العجيب بجواري على السرير يدعوني لرؤية عجائبه.  يمضي العيد وفرح الأطفال بعودة الحجاج من مكة ويصبح هذا المنظار بعد وقت غير صالح للاستعمال، وتصبح عجائبه شيئا من قبيل الذكرى حتى حج آخر، ليأتي يوم كنا نلعب فيه في الساحة الخارجية لبيت الشيخ سلمان بن حمود الخليفة، ليدعوني ذات مساء حفيده أحمد بن خليفة بن سلمان بن حمود الخليفة، أحد أصدقاء الطفولة، إلى بيتهم المجاور لبيت جده الكبير، لأجد نفسي في غرفة المجلس بين والده ووالدته وأخوته، فإذا هي لحظات ويطفيء خاله رحمه الله الشيخ راشد بن صباح بن حمود الخليفة الضوء في الغرفة، لنجد أنفسنا أمام شاشة كبيرة نسبيا بحجم نافذة المجلس، يتقدمها جهاز بحجم كرتون متوسط (البروجكتور)، وما هي إلا لحيظات حتى ينعكس نور البروجكتور على الشاشة البيضاء المعلقة لنرى من خلالها فيلما حيا، فيلما يتحرك، شخصيات وأحداث لفيلم لم يحضرني الآن اسمه، وكنت، بل كنا، في غاية الدهشة طوال العرض، وكان الصمت يستولي علينا وذاكرتي تعود إلى منظاري العجيب ذو الصور الصامتة وغير المتحركة وأتساءل بيني وبين نفسي: لمَ لمْ تحضر لي جدتي نوره من الحج مثل هذا الفيلم أو مثل هذا الفانوس السحري العجيب؟  ينتهي الفيلم وتضاء الغرفة والدهشة لا تزال تستولي علينا، وعليّ شخصيا، وأعود لأتساءل: متى سنرى فيلما آخر؟ وتسرقنا الدهشة بعد أيام، لأرى جهازا آخر (بروجكتور) وإن كان أصغر حجما وأكثر تواضعا في إمكانياته التقنية في بيت الصديق عبدالله قرينيس، هناك في بيتهم شاهدت أفلاما كارتونية من أفلام والت ديزني، وفرحنا كثيرا ومن ثم انصرفنا للعب، ولكن أكثر ما استوقفني في الموضوع أن الصديق عبدالله هو من يشغل الجهاز ويعرض الأفلام، فلم لم أكن مثله؟  عرضت رغبتي على الوالد رحمه الله، فأجابني: سيكون لديك أفضل منه بعد أيام، اصبر قليلا وسترى..  وما هي إلا أيام، حتى يفاجئونا الوالد بجهاز تليفزيون من صنع شركة (باي) الأمريكية، محميا أو محاطا بدولاب بني، وحتى ترى ما في هذا الجهاز عليك أولا أن تفتح هذا الدولاب الشبيه بستارة المسرح، لتبدأ معه أفلام أحلامك التي تتمنى يوما رؤيتها.  وضع الوالد التلفزيون في الغرفة العلوية بعناية شديدة، وكان هذا التلفزيون هو أول تلفزيون يدخل بيتا في حيّنا بالرفاع، وكان أبناء الحي من الجيران يقصدون بيتنا يوميا تقريبا لمشاركتنا ما نشاهده من أفلام (أبيض وأسود)، خاصة من خلال محطة أرامكو الشهيرة ببرامجها وأفلامها آنذاك. وبسبب كثافة جمهور الجيران الذين يقصدون منزلنا كل يوم تقريبا لمشاهدة الأفلام والبرامج والشاشة السحرية التي لم يرو مثلها قبل ذلك، اضطرت شقيقتي الأكبر مني مباشرة، مريم، إلى طلب الإذن من الوالد لنقل التلفزيون إلى الغرفة العائلية السفلية الوسطى في البيت والتي لا تسع أحدا آخر غير أفراد العائلة، حتى لا يزاحمنا أبناء الجيران في خصوصيتنا ويملون علينا، كما اعتاد بعضهم، ما ينبغي أن نشاهده من برامج وأفلام في هذا التلفزيون، وهذا ما حدث.  وفي إحدى الأمسيات، أكون أنا والعائلة وعلى غير موعد، مع الممثلة الكوميدية الكبيرة ماري منيب، حيث تحول التلفزيون بعدها بالنسبة لي إلى خشبة مسرح صغيرة رأيت فيها أول عرض مسرحي مصري يأسرني بكل ما فيه، وكانت الجدة نوره في غاية السعادة وهي تتابع بشغف ماري منيب في دورها (الحماة) والتي تشبهها إلى حد كبير في هيئتها، وكنا نضحك إذا غطت الجدة نوره وجهها عن الممثلين الرجال وكما لو أنهم موجودون بيننا في الغرفة، ولا غرابة في ذلك، فلأول مرة يشاركنا حياتنا الخاصة مجتمع جديد بنسائه ورجاله عبر التلفزيون الذي أصبح وهمه حقيقة بالنسبة إليهم، ونساؤنا التقليديات، خاصة ممن ولدن في ثلاثينات أو عشرينات القرن الماضي أو قبلها ربما، كانت من عاداتهن إذا صادفهم رجل أو كلموه، يغطين وجوههن برؤوس أثوابهن أو بأطراف خُمُرِهِن والتي كان يطلق عليها آنذاك في البحرين (الشملول) إمعانا في الحشمة.  كانت الممثلة الكوميدية العملاقة ماري منيب بالنسبة إلي أول فنانة مسرحية تستولي على كل اهتمامي بحضورها الجسدي المهيب ولكنتها (الخواجية) المضحكة والآسرة، وأوفيهاتها التي تدفعك للضحك وإن لم تفهمها أحيانا، وكان وجهها آسرا وملامحه البارزة تشعر أنها تغزو كيانك لتستقر فيه، كما تشعر وأنت تشاهدها أنها خرجت من الشاشة الفضية ومن الأبيض والأسود لتكون بيننا في الغرفة بهذا الحضور الجميل، تؤدي أدوارها وتجعل من هذه الغرفة مسرحا حيا، وكلما ازداد ضحك الجدة نوره عليها، شعرت أنها اقتربت أكثر منا، وأيقنت أن الممثل الذي يملك مثل هذه الموهبة الخلابة يمكنه مغادرة الشاشة ببساطة، ويمكنه أن يحول هذه الشاشة إلى مسرح حي. ولقدرة ماري منيب الخارقة على إقناعنا بحضورها الكاريكاتيري القوي في المسرحيات التي مثلت فيها وحالفنا الحظ في مشاهدتها، جعلتنا أنا وشقيقاتي الست نستعير بعض أسماء شخصياتها ونسمي أنفسنا بها كلما استولى علينا شوق لتذكرها أو مشاهدة مسرحية أخرى لها، وهي واحدة من الأسباب، أن المسرح أصبح بالنسبة لي موجودا في بيتنا إن غاب عن عيني خارج البيت. وبعدها استولت علي رغبة أن أشاهد التلفزيون كل مساء علني أحظى بمسرحية أخرى تعرض فيه مسرحية للممثلة العملاقة ماري منيب، ولست أزعم إن أجزمت أنها أول ممثلة أشاهدها تمثل أمامي، وإن كانت من خلال التلفزيون.

مشاركة :