إن أول شيء ينشأ لتكوين قلب الإنسان وهو في بطن أمه جنينًا «الشغاف»، وبداية تكوينه سر من الأسرار، حيث يتكوَّن من خلايا تظهر متباعدة ومتناثرة تحت منطقة تكوين البلعوم، ثم تصطف في جهتين متباعدتين كأنبوبتين، يحدث ذلك بقدرة الله سبحانه وتعالى دون معرفة لحقيقة ذلك الاصطفاف، لتُشكِّل أنبوبتين قلبيتين، ثم تتقارب الأنبوبتان (القلبان)، وتتجه كل واحدة منهما نحو الأخرى، وكأنهما حبيبان على موعد للتلاقي، إلى أن يُكوِّنا قلباً واحداً، وأنبوبة داخلية واحدة تُسمَّى بعد تكوينها «شغاف القلب»، محاطة ببقية تكوينات القلب. وكلمة الشغاف مصدرها «شغف»، وتعني الرغبة التي لا تقاوم تجاه شيء ما، قد يكون هذا الشيء شخصاً أو أمراً ما، كما تعني الاهتمام بتلهُّف نحو ذلك الشيء وذلك الأمر، لذا الذي عنده شغف، قلبه حي وينبض بالعطاء، لأن الشغف أحد مُكوِّنات النفس البشرية التي محلها القلب، وقد يُسبِّب نقصه أو عدم وجوده اختلالاً واضطراباً في الحياة، ومن يُعاني من نقص الشغف تظهر عليه أعراض نفسية، مثل: ضعف التطلع للمستقبل، وعدم الرغبة في الحب، وضعف الإنتاجية وانعدام التحفيز، لأن الشغف أحد أقوى مُنشِّطات التحفيز، والتحفيز من ضروريات العمل والإنتاج، وبقاء الحياة معطاءة، وهو - أي الشغف - مكمن الحب لدى العاشقين، وكما قيل: «لا يعرف العشق من لا شغف عنده للحب»، والحب ليس كلمة تُقال، ولا نظرات ذات تجوال، إنما الحب «حرقة اشتياق» من صناعة شغاف القلب وخلاياه الهرمونية؛ التي تبكي دموعاً عند البُعد، ولا تنام عين الحبيب المشتاق ليلاً حتى الفجر. إن مِن صُنْع شغف القلب؛ أشواقاً تُعذِّب الحبيب والمحبوب، كما ذكره نصًّا «قيس بن الملوح» بعبارة «شغفن»: أمرُّ على الديار ديار ليلى أُقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا وما حُب الديار شغفن قلبي ولكن حب مَن سَكنَ الديارا لاحظ كلمة «شغفن» في بيت الشعر، مرتبطة بالقلب، فهل هذا الأمر حقيقة بيولوجية مفادها: أن منبع الشغف هو خلايا قلبية ساكنة داخل القلب عند نشأته، أم غير ذلك؟!. والآن دعونا من القلب وشغفه، ونسأل عن العقل الذي في القلب، كما قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها)، فالقلب مع كونه مضخة عضلية تضخ الدم إلى جميع خلايا الجسم، هو مخزن للمشاعر، كالرحمة والحب والرأفة، وهو أيضاً محل للروحانيات مثل: الإيمان والهدى والتقوى، إلا أن العلم الحديث أثبت أن له وظيفة أخرى، وهو أنه عضو تناط به وظائف معرفية مثل: التدبُّر والتعقُّل والتذكُّر والتفكُّر، وهي أوصاف كانت محل استغراب أن يصفها القرآن الكريم بأنها في القلب، حتى ثبت اليوم - وبمراجع طبية وبيولوجية - أن القلب له مخ يُسمَّى مخ القلب Heart Brain يُحدِّد أن هناك أربعين ألف خلية عصبية داخل القلب، تعمل كـ password للتفاهم مع الدماغ فيما يخص كل الأمور، بما في ذلك المشاعر التي منها الحب، وبالمعرفة التي منها التفكُّر والتعقُّل.. (يمكن الرجوع بالتفصيل لهذا الموضوع في كتاب The heart brain للمؤلفين Armour وArdel). هناك أسئلة كثيرة حول الحب وخلاياه، والقلب وما وراه تنتظر مزيداً من الدراسة والبحث، ولقد أجاب العلم الحديث على شيء من ذلك؛ عندما اكتشف أن هناك أكثر من أربعين ألف خلية عصبية تتواجد على القلب، وأن هناك ترابطاً كبيراً بين الدماغ والقلب، لدرجة الاعتقاد أن القلب محل توجيه للتفكير، لا كما كان يُعتَقَد سابقاً أن الدماغ ينفرد بالتفكير والإدارة العقلية، بينما القلب محل النواحي العاطفية فقط، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية القلب في حوالى (١٣١) آية، منها قوله تعالى: (لهم قلوبٌ لا يفقهون بها)، (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها)، فيبدو أن هناك تفاهماً عجيباً بين القلب والعقل في أمورٍ كثيرة، تشمل المشاعر والروحانيات، والمعرفة والتدبر والتفكر، لا يعلم هذا التفاهم إلا الله سبحانه وتعالى، والإنسان لا يعرف منه إلا القليل؛ كما قال تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).
مشاركة :