يقدم الفنان المغربي عبدالكريم الوزاني معرضا فنيا بعنوان “طبيعتي (طبْعِي)” برواق “كنت” بمدينة طنجة، افتتح في السابع عشر من ديسمبر الماضي ويستمر إلى السابع عشر من فبراير المقبل، ويضمّ عددا من لوحاته ومجسّماته التي صمّمها خلال العام الماضي، والتي تعكس شخصيته الفنية وتجربته المجددة التي لا تحاصرها الضوابط الفنية الكلاسيكية. إن المتتبع لمسار الوزاني، منذُ تخرجه من مدرسة الفنون الجميلة بتطوان وهو ابن الواحد والعشرين ربيعا إلى يومنا هذا، مرورا بتجربة قيادة المعهد المذكور خلفا للمرحوم محمد السرغيني عام 1998، يلاحظ أنه مسار متنوع ومُشبع بالتجارب والتلوينات الفنية المترحلة من الشكل نحو الحجم ومن المبسَّط نحو المعقّد ومن الورقي نحو القماشة والفضاء بكل أبعاده. لقد جرّب كل التقنيات والمواد والأسناد وتجوَّل فيها بين المائي والزيتي والنحت بكل المواد و”الكولاج” فن الإنشاء، وغيرها من دروب الإلقاء ومسالكِ العرض الفني الحديث، ينتقل في ذلك بسذاجة راقية وبساطة خفية وبراءة حكيمة وعفوية بارعة، فمنحوتاته ترنو نحو اللعب وتذكرنا بالطفولة والمرح والبراءة في وجدان الطفل المتعطش للعبة العيد. وتستمد إنشاءات الفنان الوزاني قوتها من التوازن واكتساح الفضاء دون تشويهه، بل وتعمل على تشكيل الفضاء نفسه أحيانا حين يصر الوزاني بنفسه على اختيار المكان الأنسب لتنصيبها ويعمل بكل جدية على تنقية الأجواء واختيار المرفق المناسب لها. وهي منحوتات من مواد مختلفة تتأرجح بين الجبس والبرونز مرورا بالأسلاك المعدنية والورق المقوى بعد التدوير لكنه يغلفها ويصبغها بألوان زاهية وفاقعة يطغى عليها الأزرق والأحمر والأصفر وأحيانا أخرى ألوان جريئة كالوردي والأخضر اليانع ولا نجد الأسود والألوان الغامقة إلا لماما وللضرورة الفنية لا غير. تجاوز للتوازن ☚ الوزاني يوصف بشاعر الألوان، وبين الشاعرية والشعرية يرقد طفل بداخله يستمتع باللُّعَب التي تنتجها أنامله رغم فرادة تجربة الفنان وجِدّتها كحالة فنية شاردة في الوسط التشكيلي المغربي، إلا أنني أجد نفسي مضطرا لتقديم قراءة فيها نوع من “التشبيه” بين تجربة الوزاني التشكيلية وتلك التي طبعت مسار الفنان الإسباني الراحل خوان ميرو، تشبيهٌ سبقني إليه الناقد جلبير لاسكو حين أكد أن الوزاني مثل خوان ميرو ينحتُ حروفا ملونة. لكن المقارنة التي أقترحها على القارئ هي رؤية نقدية بقدْرِ ما ترتقي بأعمال الوزاني عن شُبهة النقل واستيراد تجربة ميرو، بقدر ما هي كذلك بمثابة تشبيه فلسفي ومفاهيمي في استلهام الرجلين لمقاربة جديدة في التعامل مع القماشة والفضاء من جهة وفي بروزهما كحالة استثنائية مختلفة في زمنهما من جهة ثانية. ولديَّ في ذلك أسبابي المنهجية والتحليلية التي تضبط هذا الطرح وتساعد في إغناء النقاش حول المفارقات ونقط الالتقاء بين التجربتين، والأهم تطور مسار الرجلين بالطريقة نفسها سواء من حيث الأسلوب والفلسفة والتقنية والمفردات التشكيلية بل وحتى المواضيع أحيانا. بالنسبة إلى الوزاني فالقماشة عبارة عن كون صغير حيث تبحر الطيور وتطير الأسماك، حيث تدور العجلات وتتأرجح المراوح وتُرسَمُ الأرقام وتزحف الأفاعي ويدِبُّ الحلزون، هي خرافات وهلوسات وأضغاث أحلام يرويها لنا بالألوان والأحجام، وأساطيرُ ملحمية تُعبّر عن نصف الحقيقة التي يُخفيها، بينما النصف الآخر يبقى ضمنيا بين السطور يستحضر فيها فكر المتلقي وذكاءه لاكتشاف ما خفي من الرموز والدلالات. فضاء فوضوي منظم إنه يبحث في منحوتاته كذلك عن التوازن متشبها بألكساندر كالدر، لكنه يتجاوز التوازن كمفهوم ليعانق الفضاء ويصير جزءا منه متوخيا بذلك بلوغ الاكتمال والنضوج. فتزيد ألوانه الزاهية من تألق إنشاءاته في الفضاء العام أو داخل المؤسسات الخاصة وتصبح مُحلقة وحدها في ذلك الفضاء وكأنها طائر طاووس يتجول في الخلاء. تخلى الوزاني في لوحاته منذ البدايات الأولى عن العمق والمنظور، وانتشرَت موتيفاته في القماشة بطريقة فوضوية دون خيط ناظم يجمعها أو رابط عقلاني يُوحِّد شتاتها، لكنها منظمة ومرتبة بطريقة لا يُفصح عنها المدلول التركيبي للعمل الفني، لكن تبوح به الألوان والمرويات البصرية للمتلقي في شكل سرد متناسق وحكايات كتلك التي ترويها الجدّاتُ على مسامع أحفادهن. ويلتقي الوزاني وميرو في اللون والشكل والفلسفة وطريقة المعالجة ونوعية التركيب ولا يُفرقهما سوى اختلاف “الموتيفات” والعناصر التي تشكل موضوع اللوحة، رغم أنهما يتشاركان في مواضيع مثل الطيور والحشرات والحيوانات المبسطة، فنجد ميرو متأثرا بالسريالية التي تربى في أحضانها، وقبلها بالانطباعية والوحشية والتكعيبية والمستقبلية، يناقش في أعماله، التي طبعت مساره الإبداعي بعد الحرب العالمية الثانية، مواضيعَ مقترنة بهواجسه الشخصية وأحلامه وكوابيسه وآماله، وتأثرت تركيبةُ اللوحة الفوضوية لديه بحالة الفوضى التي طبعت ذاكرته ببرشلونة إبان الحرب الأهلية الإسبانية ولم يستطع التخلص من تلك الحالة إلا في أعمال نادرة خصوصا عندما حاول معانقة الكون هروبا من حالة الحزن والهلع التي كانت مسيطرة عليه وأنجز سلسلة من أعمال رسمَ فيها الكواكب والمجرات في بداية الأربعينات أو سلسلة الخرائط الفلكية في السبعينات حيث هام فيها بين الحلم والهلوسة من جهة وبين الأسطورة والقُدسية من جهة أخرى. إنشاءات الوزاني تستمد قوتها من التوازن واكتساح الفضاء دون تشويهه، بل وتعمل على تشكيل الفضاء نفسه أحيانا لكن ما ميزه، رغم ذلك، تلك الموتيفات التي كان يستعملها كمُفردات دلالية واقعية مثل النجوم والمذنَّبات والحشرات والثعابين والطيور، أو تلك التي كانت عبارة عن أشكال مجرَّدة أو رموز وعلامات تشبه الكتابة الهيروغليفية. تلك الموتيفات نجدها تسبح في فضاء قماشة الوزاني خصوصا الطيور والأسماك والحشرات كما نجدها أيضا في منحوتات ضخمة أو مصغرة (هياكل أسماك) أو أشكال حلزونية ودوائر وأحيانا فراشات وطيور عملاقة. ولا نعرف الكثير عن أعمال الوزاني التشخيصية أو الواقعية أو حتى تجارب أخرى انطباعية أو تكعيبية أو سريالية، رغم أن الرجل مر حتما من تلك التجارب وخاض غمارها، ولم نعرفه، خصوصا الجيل الذي أنتمي إليه، إلا وهو يرتدي قبعة النحات الحالم الذي تزهر أنامله منحوتات مشبعة بألوان الطبيعة الخامة ولا تكدر صفوها رماديات لونية أو ألوان ممزوجة، أو جُبّة الرسام الشغوف باللعب والمرح حيث ينزل بمستوى البساطة لحد التعقيد لبلوغ السهل الممتنع. وهي فلسفة قلما نجد لها نظيرا ضمن التجارب التشكيلية المغربية أو العربية المعاصرة، إذ من الصعب أن يحاور فنان ما المتلقي من خلال القماشة أو النحت باستعمال أيقونات مبسطة ومختزلة وألوانَ خامة غير مبحوث في مزج مكوناتها، فقد يقول البعض إن هذا الفنان عاجز عن مقارعة الواقع وبلوغ النشوة الأكاديمية التي تشبع رغبة المتلقي وتستفرد بمكنوناته، لكن ذلك بعيد كل البعد عن الحالة التي نحن بصددها. وعبدالكريم الوزاني فنان أكاديمي وخريج مؤسسة الفنون الجميلة ومتشبع بأساليب وتقنيات الرواد والحركات التشكيلية الحداثية وما بعد الحداثية، كما أن فنانين كبارا نحُوا نحوه أمثال بيكاسو وميرو وشاگال وسوتين وقبلهُم الانطباعيون والتكعيبيون ولو بدرجة أقل، والدادائيون ورواد الفن المفاهيمي لاحقا، وغيرهم كثير ممن ثاروا على القواعد الأكاديمية وتفردوا بأساليبَ تنهل من البساطة والسذاجة وتُغَلبُ المضمون والفكرة والرسالة على الشكل والمحتوى كما تضع في أولوياتها شخصية الفنان ونزعاته النفسية وفلسفته فوق أي اعتبارات أخرى وفضلوها على سطوة اللغة الأكاديمية الرتيبة. ويصف العديد من النقاد الفنانَ الوزاني بشاعر الألوان، وبين الشاعرية والشعرية يرقد طفل بداخله يستمتع باللُّعَب التي تنتجها أنامله حيث يقول “كل إنسان يحوي في أعماقه طفلا يتوق للفطرة ويحِن إلى طبيعته الأولى ويسافر إلى عالم عجائبي تختلف مقارباته”.
مشاركة :