تفاصيل في جريمة التغيير الديمغرافي

  • 1/5/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

سيمر وقت طويل، قبل اكتشاف كل الجرائم التي جرى ويجري ارتكابها في سوريا، بل إن بعض الجرائم ستظل متوارية إلى أن تتغير الأحوال والظروف المحيطة بالسوريين وسوريا، ولا يحتاج إلى تأكيد أنه حتى في الجرائم التي يتم الكشف عنها، فإن فيها بعضاً من حيثيات وتفاصيل يمكن أن تغيب، خصوصاً إذا كان شهودها والمشاركون ذهبوا في غياهب النسيان، وصاروا مجرد أرقام بين من ماتوا أو اختفوا في مجريات الكارثة السورية. جريمة التغيير الديمغرافي، التي تعني اختصاراً تغيير الطبيعة السكانية في منطقة ما وإحلال سكان من طبيعة أخرى مكانهم. وقد توالت في هذه الجريمة روايات وفصول على مدار الأحداث السورية طوال سنوات العقد الماضي، وشملت الجهات الأربعة، والسبب الرئيس في ذلك لا يكمن في واقع التعدد الإثني والديني والطائفي والمناطقي في سوريا، كما يحلو للبعض القول، فهذا أمر موجود منذ زمن طويل، بل هو بعض من طبيعة الاجتماع السوري، ورغم أن ثمة إرثاً في التاريخ من صراعات، جرت بين بعض تكوينات الجماعة الوطنية في سوريا، فإن ذلك لا يمكن اعتباره سبباً في جرائم التغيير الديمغرافي، التي كان سببها الرئيس والحقيقي تطرف دموي، تسترت خلفه دوافع وشعارات سياسية وآيديولوجية غالباً ومصالح رخيصة، مما جعل جريمة التغيير الديمغرافي تصيب مختلف السوريين أو أغلبهم بدرجة أو بأخرى. فأصابت العرب والأكراد والأرمن، كما طالت المسلمين والمسيحيين، وضربت أغلب الطوائف من الديانتين. ورغم أن أطرافاً مختلفة انخرطت في جرائم التغيير الديموغرافي، فإن البادئ والأشد حضوراً فيها ثلاثة، أولهم وأهمهم نظام الأسد، الذي استخدم ميليشياته وآلته العسكرية والأمنية إلى أقصى الحدود، ثم شاركت في الجرائم إيران وميليشياتها، لا سيما «حزب الله» اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية وغيرها، وانضمت إلى الطرفين جماعات التطرف والتشدد، منها «داعش» و«النصرة» وأخواتهما، مما ساهم في «تعميم» الجريمة، وعمل نحو خلط أوراقها عبر دفع جماعات من خارج القوى الثلاث السابقة للمشاركة في ارتكاب الجرائم. لقد بدا من الطبيعي، اختيار مسرح الجرائم في مدن وقرى، توفر للقتلة الاتكاء على اعتبارات سياسية وآيدلوجية وأمنية وعسكرية كلها أو بعضها لتبرير أفعالهم. وقد توالت فصول جريمة التغيير في جنوب وغرب دمشق، وامتد قوسها من طريق مطار دمشق الدولي ليشمل مدينة السيدة زينب ومحيطها، ثم شمل داريا وجوارها وصولاً إلى منطقة وادي بردى على امتداد الحدود الغربية مع لبنان، ولهذه المنطقة أهمية بسبب ما فيها من مزارات «شيعية»، ولها أهمية في تأمين العاصمة دمشق، وحمايتها من احتمال هجمات من الجنوب القريب، وكانت فيه أبرز التشكيلات المسلحة وأكثرها قوة في الجنوب، كما أن للمنطقة أهمية إضافية، إذ توفر تواصل دمشق مع سهل البقاع اللبناني، وهذه ضرورة لنظام الأسد وإيران وميليشيات «حزب الله»، الذي مد سيطرته إلى منطقة القلمون الغربي على امتداد سلسلة جبال لبنان الشرقية وصولاً إلى سهل العاصي، وجرى في سياق هذا الخط الطويل كثير من جرائم تغيير ديمغرافي، شملت عمليات القتل والتهجير والتدمير، وتمثل حالات مخيم اليرموك وداريا والقصير نماذج معروفة. وثمة مثال آخر في مسار التغيير الديمغرافي، جرى أحد فصوله في وادي بردى غرب دمشق، وفصل آخر في كفريا والفوعة في إدلب، حيث عقد ممثلون عن «حركة أحرار الشام» الإسلامية و«هيئة تحرير الشام»، وعن «الحرس الثوري» الإيراني وميليشيا «حزب الله»، اتفاق «المدن الأربع» في مارس (آذار) 2017 برعاية إقليمية وأموال عربية وموافقة أممية، لتبادل السكان، ينقل فيه سوريون من «السنة» إلى منطقة سيطرة التشكيلات المسلحة في الشمال، وينقل سوريون من «الشيعة» إلى مناطق سيطرة النظام في الجنوب. وثمة سياق آخر للتغيير الديمغرافي، أصاب السوريين المسيحيين، الذين قدرت نسبتهم من السكان بنحو تسعة بالمائة عام 2011، ووصلت نسبتهم اليوم إلى نحو ثلاثة في المائة في أحسن التقديرات، مما يعني أن نحو سبعين في المائة منهم غادروا البلاد لاجئين ومهاجرين، وقد خرج هؤلاء تحت ضغط ثلاثة عوامل؛ أولها سياسات وممارسات نظام الأسد نحوهم ومحاولاته استخدامهم في الصراع السوري، وثانيهما قيام جماعات التطرف، وخصوصاً الجماعات الإسلامية المسلحة بالتعدي عليهم واضطهادهم، والثالث يمثله تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد. وإذ دفعت العوامل الثلاثة وغيرها أكثر السوريين المسيحيين لمغادرة البلاد، فقد تحولت قراهم ومدنهم وأحياء يسكنونها في مدن كبرى إلى مناطق خالية أو محدودة السكان، كما حدث في منطقة الجزيرة في الحسكة والقامشلي وتل تمر وفي أحياء حلب وحمص وعدد من بلدات درعا، وحدث ذلك بصورة أقل في مناطق، لم تشهد تطورات عسكرية عاصفة مثل طرطوس والسويداء. ويمثل التغيير الديمغرافي الذي حدث في بلدة القريتين الواقعة في امتداد منطقة القلمون الشرقي شرق مدينة حمص أحد الأشكال البشعة في جريمة التغيير. ففي هذه البلدة تعايش وتشارك سكانها المسلمون والمسيحيون الحياة مئات السنين، وقبل انطلاق ثورة 2011 بسنوات شهدت المدينة والمنطقة حركة نشطة لتعزيز التعايش والتقارب والحوار الإسلامي المسيحي، وكان الأب باولو دالوليو يديرها انطلاقاً من دير مار موسى في مدينة النبك بريف دمشق، مما أثار عليه غضب النظام ولاحقاً غضب جماعات التطرف. انتهت تجربة الأب باولو إلى فشل مع جماعات التطرف ومنها «جبهة النصرة»، قبل اختفائه في الرقة عام 2013 أثناء سعيه للحوار مع قادة «داعش»، بينما كانت منطقة القلمون بما فيها القريتين تواصل ثورتها على النظام، مما جعلها هدفاً مزدوجاً لنظام الأسد وجماعات التطرف الذين اجتاحوا على التوالي القريتين، وأغلب بلدات المنطقة النبك ويبرود ودير عطية وقارة صدد ومهين وغيرها، وتم قتل واعتقال وتهجير السكان. الأبرز في مثال جريمة التغيير الديمغرافي في القريتين، كان مع اجتياح «داعش» للبلدة عام 2015، حيث فر كثيرون، وقام «داعش» باحتجاز 270 من سكانها المسيحيين في قبو تحت الأرض لمدة قاربت الشهر، ودمر المعالم المسيحية وبينها دير مار إليان للسريان الكاثوليك، الذي يعود إلى القرن السادس ميلادي، وأحرق ودمر كنائس البلدة، وعندما استعاد نظام الأسد البلدة عام 2017 حافظ على نتائج ما ألحقه «داعش» بسكان البلدة ومعالمها، التي يمكن اختصارها اليوم بالقول: إن القريتين التي كان سكانها عام 2011 نحو ثلاثين ألفاً بينهم ألف من المسيحيين، لم يبق منهم فيها اليوم سوى نحو تسعة آلاف بينهم أقل من عشرين مسيحياً، أغلبهم من كبار السن، وهذا مؤشر نهاية وجود مسيحي في البلدة عمره أكثر من ألف وخمسمائة عام. وإن كنا لا نعرف من سيحل مكان هؤلاء في البلدة، فإن الوقائع تبين أن إيرانيين وأفغاناً، وعائلات وأقارباً منتمين إلى ميليشيات عراقية ولبنانية، يتواصل توطينهم في دمشق ومحيطها الجنوبي والغربي استكمالاً لجريمة التغيير الديمغرافي الجارية هناك.

مشاركة :