المنصات الدينية منشغلة بالحياة الآخرة أكثر من انشغالها بالحياة الدنيا | محمد الحمامصي

  • 1/7/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تطرح النصوص المدروسة والمحللة في الكتاب الصادر عن مكتبة الأسرة، مجموعة ثانية من الأسئلة، تتلخص في: ماذا عسى أن تكون موضوعات هذه النصوص الخطابية والقيم التي تبثها؟ وهل توجد في ثنايا النصوص موضوعات وقضايا تحث البشر على التنمية والنهوض والتقدم والسعي نحو تغيير الحياة؟ أم أنه خطاب أخروي يصب جل اهتمامه على ما بعد الحياة ولا ينشغل بقضايا النهضة والتنمية وبالتالي ما حجم اهتمام النصوص الخطابية بمنظومة القيم التي يقال عنها إنها قيم تتجه لتحسين ظروف الوجود الإنساني فما طبيعة التنمية أو التقدم التي يستجلبها هذا الخطاب؟ أم أنه خطاب مرسل لسد متطلبات مهنية؟ ومن النصوص إلى التلقي تتشكل أسئلة أخرى: كيف يتلقى الجمهور وهل يلعب الهابيتوس الديني للأفراد والجماعات دورا في هذا التلقي؟ هل المتلقي يخضع للنصوص على نحو سلبي أم أنه يستقبلها فاهما وناقدا ومأوّلا؟ ويؤكد زايد أن درس الخطاب لا ينفصل عن سياقه، فالسياق هو الذي ينتج الخطاب وهو الذي يستقبله بعد إنتاجه، فالخطاب يتوالد عبر سياق خاص، وينتج عبر سياقات هذا الواقع ومن خلال الذوات التي تنشأ داخل هذا الواقع وتتربى فيه. كما أن هذا الخطاب يرتد إلى الواقع عبر عمليات التلقي لكي يوجه هذا الواقع أو يساهم في تشكله على نحو معين أو على الأقل لكي يفهم على نحو معين، ويتم تلقيه والتفاعل معه عبر هذا الواقع. وبلغت عينة الخطب التي حللها زايد 470 خطبة تم أخذها من مصدرين الأول خطب منشورة في كتب وهي خطب ألقاها كبار الدعاة ونشروها في كتب أصبحت مرجعا مهما لكل خطباء المساجد ينتقون منها أفكارهم الخطابية بل إنهم قد يحفظون بعض فقراتها استظهارا وقد بلغ عدد هذه الخطب 228 خطبة. والثاني خطب تم تسجيلها بنصها من المساجد، وقد بلغ هذه الخطب 242 خطبة، وقد جمعت هذه الخطب عبر فترة امتدت من نهاية 2007 حتى بداية 2010 وغطت مناطق القاهرة الكبرى وبني سويف والفيوم والمنيا وسوهاج. ويلفت زايد إلى أن المنصات الخطابية التي تنتشر في أماكن متعددة عبر صور مختلفة (الوعظ في المساجد، المؤتمرات الدينية، المسابقات الدينية، البرامج الدينية، في التليفزيون..) تعمل على نحو متوافق تماما مع الإطار الديني المهيمن الذي تدعمه النخب المهيمنة على الحقل الديني، فالنخب الدينية تنتج الخطاب على المستوى الأعلى في صورة خطب أو كتب أو برامج تلفزيونية، ويتم تلقي هذه المنتجات الخطابية عبر المنصات المختلفة لكي يتم نشرها عند المستوى الأدنى، ويغذي التعليم الديني كلا المستويين، فهو ينتج أفرادا يحمل بعضهم صفات كاريزمية، وقدرات لغوية فائقة، ورأس مال ديني “مؤسسي تعليمي” كبير، كما ينتج أعدادا غفيرة من حاملي كل هذه الصفات وإن بشكل أقل، وأولئك هم الذين ينتشرون على المنصات الخطابية لتوصيل الرسائل المتضمنة في الخطاب الديني النخبوي كل على قدر ما يملك من إمكانيات خطابية وكاريزمية. معان ودلالات تعمل الرأسمالية المعاصرة بأدوات اتصالها دائمة التطور وبسوقها الاستهلاكية واسعة النطاق على دعم هذه المنصات الخطابية بتقنيات حديثة “سمعية وبصرية” تجعل الخطاب الديني برمته جزءا لا يتجزأ من المنظومة الرأسمالية الاستهلاكية، وتخضعه في الكثير من الأحيان إلى عمليات أشبه بعمليات العرض والطلب، أو الإنتاج والاستهلاك. ويتابع أن الواقفين على هذه المنصات الخطابية يتجاوبون ـ سواء في مواقع النخب الدينية أو المواقع الأفقية في المساجد والزوايا وقاعات الدرس ـ مع هذه الثقافة فيتفننون في تحسين ألبستهم التقليدية أو يستبدلون الملابس الحديثة بها، ويتفننون في أن تظهر أجسادهم وهي نظيفة قشيبة تكتسي بثياب نظيفة جميلة، ولحى مهذبة مشذبة، وكل هذا من متطلبات الثقافة الاستهلاكية الرأسمالية المعاصرة. ويكشف زايد أن القراءة الإحصائية للخطب ذات التوجه الأخروي والماضوي، عن أن الطابع الأخروي يغلب على الخطاب، فقد بلغ عدد الخطب ذات التوجه الديني 362 خطبة أي بنسبة 77 في المئة في حين بلغت عدد الخطب ذات التوجه الدنيوي 108 خطبة بنسبة 23 في المئة وجاءت الموضوعات التي تناقشها الخطب الدينية متجهة في معظمها نحو الحياة الآخرة، كالتالي: العلاقة مع الله تكرار 76 بنسبة 21.2 في المئة، الدار الآخرة تكرار 66 بنسبة 18.4 في المئة، العبادات بأنواعها تكرار 65 بنسبة 18.1 في المئة، الأحكام والفتاوى والتحذيرات تكرار 43 بنسبة 11.1 في المئة، الإسلام وصفات المسلمين تكرار 39 بنسبة 10.9 في المئة، القرآن تكرار 30 بنسبة 8.4 في المئة، النبي وصفاته تكرار 22 بنسبة 6.1 في المئة، الأحداث التاريخية تكرار 21 بنسبة 5.8 في المئة، ليكون الإجمالي تكرار 362 بنسبة 100 في المئة. وأما في ما يتعلق بالخطب ذات التوجه الدنيوي المرتبط بالحياة الدنيا فهي وفقا لزايد قليلة إذا ما قورنت بالموضوعات الأخروية، وقد بلغ عدد الخطب التي صنفت على أنها تتناول موضوعات دنيوية على نحو مباشر 108 خطبة بنسبة 23 في المئة من إجمالي الخطب وغطت هذه الخطب موضوعات متنوعة كالتالي: موضوعات سياسية واجتماعية عام تكرار 12 بنسبة 11.1 في المئة، الحقوق تكرار 25 بنسبة 23.1 في المئة، العلاقات بالنفس وبالآخرين تكرار 8 بنسبة 7.4 في المئة، القيم والمثل العليا تكرار 51 بنسبة 47.3 في المئة، نقد سلوكيات تكرار 7 بنسبة 6.4 في المئة، قضايا علمية عامة تكرار 2 بنسبة 1.8 في المئة، المستقبل 2.8 في المئة، الإجمالي 108 بنسبة 99.9 في المئة. أحمد زايد: الخطاب الديني لا يبث رسائل تحث الأفراد والجماعات على تحقيق نهوض اجتماعي واقتصادي وهنا نشير إلى أن احتلال الموضوعات السياسية والاجتماعية نسبة 11 في المئة من إجمالي الموضوعات ذات الصبغة الدنيوية يؤشر إلى أن هذه الموضوعات من الخطب تبدو كأنها خطب مناسبات تراوح بين السياسة والأحداث العامة وتتفاعل مع قضايا مجتمعية عامة. يناقش زايد المعاني والدلالات التي يؤشر عليها الخطاب وفقا للإحصاءات وتحليلاتها، فيتوقف بالتحليل عند عدد من النقاط نلفت منها إلى نقطة “تأسيس الخوف” وقال فيها “تنبثق عن الخطاب دلالات ومعان بشكل مباشر وغير مباشر لبث الخوف وتأسيسه في النفوس، فالخطاب يزخر بعبارات الزجر والتحريم من ناحية والحديث عن عذاب القبر وظلمته من ناحية ثانية، ومحاولة تصوير أحوال العباد على أنها أحوال سيئة، وأن البشر عليهم أن يبذلوا جهدا إيمانيا كبيرا ليصلوا إلى حالة من الاطمئنان من ناحية ثالثة. وكل ذلك يعمل على أن يصبح الخوف لصيقا بقلب المؤمن وعقله. وتؤدى دلالات الخوف ومعانيه الصادرة من الخطاب وظائف أخرى أبعد من حالة الخوف والقلق، فالإمام يفترض أن الخوف سوف يقرّب الإنسان من الله، ولكن ربما يحدث العكس تماما، فالخوف قد يوسع المسافة بين العبد والرب ويخلق لديه قدرا من عدم الاطمئنان على إيمانه”. ومن تلك النقاط “الذات القلقة” وقد أوضح فيها زايد أن الخطاب يكشف عن شقاء حقيقي للوعي الديني، فهو وعي مشتت بين التاريخ والواقع المعاصر بما فيه الآخر المختلف المهيمن. تتنازع الوعي هذه المكونات الثلاثة “الواقع المتردي ـ الآخر المهيمن ـ التاريخ الضائع” فيصير وعيا شقيا، قلقا باحثا عن أمن وأمان، وتنتج هذا الوعي ـ المشتت ـ ذات قلقة تنقل قلقها بشكل مباشر إلى المتلقي، فيبث القلق في المجتمع بأسره، فالحياة لا تبعث على أمن وطمأنينة وسعادة “فلا طمأنينة ولا سعادة.. ولا انشراح للصدر ولا لذة في العيش، والإنسان لا يهنأ بثوب ولو كان فاخرا.. ولا بمركب ولو كان فارها.. ولا مال ولا متاع ولا جاه يعيد للنفس الطمأنينة. هكذا تحدث الإمام، ويعكس النص ذاتا قلقة لا تجد سعادتها في أي شيء إلا الإيمان الذي يطرح دائما لتحقيق الطمأنينة للنفس ومع ذلك فإن قصدية الخطاب نحو تأكيد القلق وعدم الطمأنينة تتوازى مع قصدية أخرى تتحدث عن الذات أو النفس اللوامة، والذات الأمارة أو النفس الأمارة والذات المطمئنة أو النفس المطمئنة”. أيضا في إطار تحليلاته للخطب يتساءل زايد: هل يبث الخطاب الديني رسائل تحث الأفراد والجماعات على تحقيق نهوض ـ قيام ـ اجتماعي واقتصادي؟ بمعنى آخر هل ثمة قصدية في الخطاب نحو توجيه المستمعين إلى بناء أنفسهم كأفراد وبناء مجتمعهم كوطن؟ ومن خلال تحليل لمصفوفة قيم التنمية في نصوص الخطب الـ470 يكشف أولا أن أكثر القيم تكرارا في الخطاب هي القيم الاجتماعية بنسبة 34.1 في المئة وأن أقلها تكرارا هي قيم العمل بنسبة 13.2 في المئة حيث أن الإشارة إلى العمل تكررت 38 مرة في الخطب، وأن معظم الإشارات ونسبتها 89.5 في المئة تمت على نحو غير مباشر. ثانيا أن عدد الإشارات لمصفوفة القيم قليل بالنسبة إلى عدد الخطب التي تم تحليلها حيث بلغ 288 إشارة في 470 خطبة بنسبة 61.3 في المئة. ثالثا أن الاشارات المباشرة إلى هذه القيم قليلة جدا فلم تصل إلا إلى 54 إشارة بنسبة 18.7 في المئة من مجموع الاشارات. رابعا أن جل الاشارات تم بشكل غير مباشر حيث بلغت نسبة الإشارات غير المباشرة 234 إشارة بنسبة 81.3 في المئة من مجموع الإشارات.. خامسا أن هناك قيما لم يتم التعامل معها مطلقا وقد بلغ عددها 15 قيمة بنسبة 27.7 في المئة من مجموع القيم. غياب الحاضر والمستقبل مما يخلص إليه زايد أن “الخطاب ينشغل بالحياة الآخرة أكثر من انشغاله بالحياة الدنيا، فقد دل التحليل على أن 77 في المئة من موضوعات الخطاب تتجه نحو موضوعات تتصل بالآخرة أو العبادات، أي بموضوعات دينية ولا تتعلق بالحياة. وقد جاءت قضايا مثل قضية العبودية لله والحياة الآخرة، والعبادات بأنواعها المختلفة في مقدمة الموضوعات التي ينشغل بها الخطاب. وعندما ينشغل الخطاب بموضوعات مثل القرآن والإسلام والنبي أو حتى موضوعات تاريخية، فإن توجهه يكون توجها دينيا خالصا لا يربط بين الخطاب وبين الحياة الدنيا. أما العدد القليل من الخطب التي تتجه نحو موضوعات دنيوية بنسبة 23 في المئة فيتجه الخطاب فيها إلى ترسيخ الإيمان في النفوس أكثر من توجيه الناس إلى أهداف محددة إلا في النزر اليسير”. القطيعة بين الماضي والحاضر لا تحل بدمج النص في الواقع وإنما بالانعكاسية الماضوية ويشير إلى إن جل الحديث عن الأمور الدنيوية ينصب في على موضوعين هما: القيم والمثل العليا بنسبة 47.3 في المئة من مجموع الخطب ذات التوجه الدنيوي ،والحقوق بنسبة 23.2 في المئة من هذه الخطب، حيث يتجه مضمون الخطاب هنا إلى تحويل الحديث إلى حديث ديني صرف بهدف ترسيخ الإيمان في النفوس، كأن يتحدث الإمام عند تناوله موضوع الوفاء بالعهد إلى موضوع وفاء العهد مع الله.. وهكذا. يرى زايد أن الخطاب يخلو تقريبا من الحديث عن المستقبل، فحقيقة قد نصادف هنا وهناك حديثا عن الغفلة. وقد تفهم الغفلة على أنها غفلة عن تدارك أسباب التقدم، وعن تدارك النظرة الثاقبة للمستقبل. ولكن الحديث عن الغفلة هنا لا يرتبط لا بأسباب التقدم ولا المستقبل، بل يرتبط بالغفلة عن ذكر الله، أو الغفلة عن العبادات، أو الغفلة عن عبودية الله، أو الغفلة عن قراءة القرآن، فالغفلة تفهم بالمعنى الديني البحت، بل يؤكد الخطاب أن التعلق بالحياة الدنيا يعتبر سببا من أسباب الغفلة. ويؤدي ذلك إلى نزعة انعكاسية ماضوية مضادة لنزعة الحداثة، فإذا كانت انعكاسية نزعة الحداثة تتجه نحو المستقبل، وتنطلق بالفكر والحياة إلى عوالم متجددة فإن النزعة الماضوية تتجه نحو الخلف لتعتبر أن الماضي أفضل من الحاضر. وأن هذا الماضي هو المخزن الحقيقي للقيم الفاضلة والاستقامة والحكم الصالح. وتتضح هذه الانعكاسية في الخطاب الديني في نقده المرير للواقع المعيش وكذلك لثقافة الآخر ومنجزاته الحضارية والتمجيد الشديد للماضي وفيما يحتويه من انتصارات وأمجاد. ويختم بأن الخطاب يؤكد على أن ثمة إسلاما غائبا وثمة فرائض غائبة، وثمة قطيعة بين النص والواقع، ولكن هذه القطيعة تحل عبر الخطاب لا بدمج النص في الواقع، وإنما بالانعكاسية الماضوية، أي بالحديث عن الماضي على أنه نموذج مثالي يجب أن يحتذى ويجب ضمنيا أن يستعاد. إن النقد الذي ينصب على الواقع لا يوازيه نقد الماضي، فالماضي كان ذهبيا ناصعا، والحاضر حديدا أسود صدئا يحتاج إلى تجلية، ولا طريق إلى ذلك إلا بالقياس على الماضي واحتذائه، يرتمي الخطاب بذلك في أحضان الماضوية فيترك الحاضر صلدا وآسنا.

مشاركة :