شكل تعثر تنظيم الانتخابات الرئاسية في ليبيا في موعدها الذي كان مقررا في الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي بداية تهميش للانتخابات البرلمانية، وهو ما دفع العديد من الأطراف لمحاولة تلافي ذلك دون أن تحقق جهودهم نتائج ملموسة. والاثنين اقترحت “القوى الوطنية من أجل التغيير” وهو تحالف لمجموعة من الأحزاب الليبية، خلال اجتماع عقدته المستشارة الأممية ستيفاني وليامز والقائم بأعمال رئيس البعثة الأممية ريزدون زينينغا، تنظيم الانتخابات متتابعة بدءا من البرلمانية. وجاء ذلك في وقت لم يعد فيه مجال للحديث عن انتخابات برلمانية خلال الشهر القادم أو الذي يليه، فكل المؤشرات تؤكد أن التشريعيات هي أول ضحايا الرئاسيات التي تم الدفع بها إلى أجل غير مسمى لأسباب تعجز المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عن تبريرها، ويختلف الفرقاء السياسيون والاجتماعيون في تحديدها. وكان مجلس النواب قرر في الرابع من أكتوبر الماضي “إجراء الانتخابات البرلمانية بعد 30 يوما من تاريخ انتخاب رئيس الدولة، وإذا تعذر إجراؤها في هذا اليوم بأحد مراكز الاقتراع، فستعلن المفوضية خلال 48 ساعة عن موعد ومكان الاقتراع، في مدة لا تتجاوز أسبوعا واحدا من تاريخ الموعد الأول، وستحدد إجراءات عملية الاقتراع والفرز والعد في محطات ومراكز الاقتراع”. وربط القانون المثير للجدل بين الانتخابات البرلمانية وإمكانية اللجوء إلى دور ثان من الانتخابات الرئاسية، وذلك بهدف ضمان تنظيم السباق الرئاسي في موعده المحدد للرابع والعشرين من ديسمبر وعدم الانقلاب عليه من القوى الرافضة لقانون انتخاب الرئيس الصادر عن البرلمان. القوى الوطنية من أجل التغيير اقترحت خلال اجتماع مع وليامز وزينينغا تنظيم الانتخابات بالتتابع بدءا من البرلمانية وفي الثاني والعشرين من ديسمبر تقدمت المفوضية باقتراح إلى مجلس النواب لتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى الرابع والعشرين من يناير، على أن يتولى مجلس النواب اتخاذ الإجراءات بإزالة ’القوة القاهرة’ التي تواجه استكمال العملية الانتخابية. وقالت أوساط ليبية مطلعة في مدينة بنغازي (شرق) لـ”العرب” إن أي محاولة للفصل بين الاستحقاقين سيكون مصيرها الفشل، لأن هناك من سيرى فيها خدمة لطرف بعينه كان دائما رافضا لتنظيم الرئاسيات، ومتمسكا بتسبيق التشريعيات، وذلك انطلاقا من طبيعة التوازنات السياسية والاجتماعية والمناطقية والإقليمية التي تحرك المشهد السياسي في ليبيا. وأضافت أن القوى الفاعلة في شرق ليبيا، كانت تنبهت منذ البداية إلى محاولات أطراف سياسية وعسكرية في غرب البلاد العمل على تسويق فكرة تنظيم انتخابات برلمانية قبل الانتخابات الرئاسية، أو تنظيمها معا، وهو ما يعني إلغاء الاستحقاقين معا، أو تنظيم التشريعي على حساب الاستحقاق الرئاسي الذي ترفض قوى الإسلام السياسي وأمراء الحرب وقادة الميليشيات وبعض القوى الجهوية وخاصة في مصراتة وطرابلس والزاوية تنظيمه قبل التوصل إلى إقرار الدستور، وتحديد شروط للترشح يتم بموجبها منع شخصيات جدلية من خوض المنافسة على منصب الرئيس ومنها القائد العام للجيش خليفة حفتر وممثل النظام السابق سيف الإسلام القذافي. ورغم أهمية مجلس النواب في تشريع قوانين المرحلة الانتقالية التأسيسية وفي الرقابة على السلطة التنفيذية وفي إمكانية تحديد الملامح المرتقبة للدولة الليبية الجديدة، إلا أن الانتخابات الرئاسية سيطرت على اهتمام الأطراف الداخلية والخارجية، وحظيت بالحيز الأكبر من المتابعة، وهو ما يفسّر عدم الاهتمام بالسياق التشريعي الذي كُتب له أن يكون على هامش الرئاسيات موعدا وتنظيما ورهانا. لكن هذا الواقع الذي فرض نفسه في العلن كان يخفي جانبا مهما داخل المكاتب الإدارية للمفوضية بمختلف مناطق البلاد، والتي شهدت بمرور الوقت كثافة في عدد المترشحين لم تكن منتظرة لدى إدارة المفوضية ذاتها، وفق رئيسها عماد السايح. وفي السابع من ديسمبر قالت المفوضية إن عدد طلبات المرشحين إلى انتخابات البرلمان المقبل فاق المتوقع، مشيرة إلى أن عملية التدقيق والمراجعة ستأخذ فترة زمنية أطول من المخطط لها، الأمر الذي ستضطر معه لتأجيل “وجيز” في عملية الإعلان عن القوائم الأولية لمرشحي انتخاب مجلس النواب. وأوضحت أنها تعكف على مراجعة طلبات الترشح التي بلغ عددها 5385 طلب ترشح موزعة على 75 دائرة انتخابية، والتدقيق في ما ورد بها من بيانات ومعلومات. ونظرا لأن شروط الترشح للتشريعيات تعتبر أبسط وأقل تعقيدا من شروط الترشح للرئاسيات، ولأن القانون أقرّ الاعتماد على القوائم الفردية وليس القوائم الحزبية، فإن الإقبال على السباق البرلماني دفع بأكثر من 5000 ليبي إلى الترشح للمنافسة على 200 مقعد، بينما أكد رئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات السايح أن المئات من المترشحين للتشريعيات هم من أصحاب السوابق بجرائم مختلفة على غرار الخطف والسرقة، وهو ما فسره المراقبون بوجود استسهال لخوض غمار المنافسة على عضوية مجلس النواب وبالتالي على نيل الحصانة البرلمانية والوجاهة الاجتماعية والمكاسب المادية والسياسية وخدمة المصالح الفردية والفئوية ضمن منظومة اجتماعية لا تزال تتأسس ظاهريا على الحسابات القبلية والمناطقية فيما تعتمد واقعيا على خارطة الفساد المنتشر في كافة أجهزة الدولة دون استثناء. وكانت ليبيا قد نظمت آخر انتخابات تشريعية في الخامس والعشرين من يونيو 2014 حيث لم يتعد الإقبال على صناديق الاقتراع نسبة 18 في المئة، أي 630.000 ناخب فقط وهو ما يمثّل بالكاد ثلث الناخبين المؤهلين للتصويت، والذين بلغ عددهم آنذاك 3.4 مليون، وقد شهد ذلك اليوم حالات عنف حيث قتل على الأقل خمسة أشخاص في مواجهات بين قوات حكومية ومسلحين في بنغازي عندما أطلق مسلحون إسلاميون النار على مراكز أمنية. وأسفرت تلك الانتخابات عن فوز التيار المدني والليبرالي بأغلبية الأصوات فيما اكتفى الإسلاميون بـ30 مقعدا، وهو ما جعلهم ينقلبون على النتائج من خلال منظومة “فجر ليبيا” التي قادت إلى حالة الانقسام السياسي والعسكري ودخول البلاد في مرحلة الصراع شرق/غرب. كما قرر أغلب نواب المنطقة الغربية ولاسيما مدينة مصراتة وتيار الإسلام السياسي مقاطعة جلسات البرلمان المنعقد منذ أوائل سبتمبر 2014 في مدينة طبرق، وفي السادس من نوفمبر من العام ذاته نزعت المحكمة العليا في ليبيا الشرعية عن مجلس النواب وما انبثق عنه من قرارات ومؤسسات، واستندت في حكمها إلى أن القانون المنظم للانتخابات البرلمانية والذي أعدته ما تعرف بـ”لجنة فبراير” في المؤتمر الوطني، ملغى، وهو ما يعني حل مجلس النواب الحالي وكل ما ترتب عنه. رغم أهمية البرلمان في تشريع قوانين المرحلة الانتقالية إلا أن الانتخابات الرئاسية سيطرت على اهتمام الأطراف الداخلية والخارجية، وحظيت بالحيز الأكبر من المتابعة، وهو ما يفسر عدم الاهتمام بالسياق التشريعي وقد تم الاعتماد على ذلك الحكم في إعادة ترتيب المشهد السياسي بليبيا من خلال إعادة الحياة للمؤتمر الوطني العام المنتخب في العام 2012 والذي كان خاضعا لسيطرة الإسلاميين بدافعي الأيديولوجيا والمال السياسي، واعتباره شريكا أساسيا في الحوار السياسي الذي أدارته الأمم المتحدة بمدينة الصخيرات المغربية، والذي أفرز تشكيل سلطات جديدة وفق اتفاق ديسمبر 2015 وهي المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، ومنح شرعية لا أساس لها لما سمي بالمجلس الأعلى للدولة في إعادة تدوير للمجلس الوطني العام المنتهية شرعيته، وهو ما أدى إلى تكريس شرعية اللاشرعية. فمجلس النواب الملغى بحكم صادر عن أعلى دائرة قضائية وغير قابل للنقض، استطاع الاستمرار في القيام بدوره التشريعي، وهو ما جعل قراراته وقوانينه لا تنفذ إلا في سياق نفوذ الحكومة المؤقتة برئاسة عبدالله الثاني والتي تولت مهامها انطلاقا من مدينة البيضاء من سبتمبر 2014 إلى مارس 2021، فيما حاول مجلس الدولة الخروج من جلباب دوره الاستشاري للمنافسة على الدور التشريعي ضمن سياقات الصراع التي تزامنت مع المواجهات العسكرية في ظل تجاذبات القوى الداخلية والخارجية على المصالح والحسابات. وبالرغم من هذا الفشل، إلا أن مجلس النواب حافظ على وجوده ككيان شرعي معترف به دوليا، وكإطار للمناورات الداخلية، كما حافظ أعضاؤه المباشرون والمقاطعون وعددهم 180 عضوا على جميع امتيازاتهم، حيث يبلغ الراتب الشهري للنائب 16 ألف دينار ليبي، أي ما كان يعادل قبل تعديل سعر الصرف في يناير الماضي 10 آلاف و600 دولار، وقد عُدّ من أعلى مرتبات شاغلي السلطة التنفيذية في العالم في حينه. وسيحافظ النواب على تلك الامتيازات خلال المرحلة القادمة التي قد تستمر طويلا في ظل عدم الاتفاق على تحديد موعد جديد ورسمي وحاسم لتنظيم الاستحقاق البرلماني. وفي المقابل، أعلن مرشحون للانتخابات البرلمانية في جنوب ليبيا رفضهم استبدال الاستحقاق المُرتقب بأي عملية انتقالية مؤقتة جديدة، مطالبين بتحديد موعد جديد لإجراء الانتخابات، يكون غير قابل للتعديل أو الإلغاء. وأكد المرشحون خلال “ملتقى توحيد كلمة أهل الجنوب” المنعقد بمسرح بيت الثقافة بمدينة سبها، تمسكهم بضرورة إجراء الانتخابات في الرابع والعشرين من يناير الجاري، الذي سبق أن اقترحته المفوضية، بالإضافة إلى تعديل مادة قانون انتخاب مجلس النواب. لقد وقعت الانتخابات التشريعية ضحية أولى لتأجيل الرئاسيات، حيث تم تهميشها بشكل معلن، لكن ذلك يخدم بالتأكيد مصالح من يريد الدفع بالمسارات إلى آجال غير مسماة، أما الشعب فهو خاسر ومجبر على ابتلاع خسارته في ظل تعمد تهميش دوره من قبل الأطراف الداخلية والخارجية التي تتصدر إدارة العملية السياسية.
مشاركة :