وحيدة مال الله المتمرّدة بمرح على عالم صامت | فاروق يوسف

  • 1/9/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

بحرية أقل وبصدق أعمق نجحت وحيدة مال الله في أن تستخرج معادلات نزيهة من تجربة المرأة الريفية في البحرين لتكون العمود الفقري لعالمها الذي صورته لتقول من خلاله أفكارها. لم يكن هدفها الفضح وإن كانت قد تسللت إلى تلك التجربة من الداخل. ذلك واحد من شروط نزهتها القروية. أن تتحاشى رؤية الوقائع من الخارج. فهي ابنة تلك التجربة. دائما ترى بعين الطفلة التي عاشت لذائذ تلك التجربة. هناك شيء من الضحك المتمرّد الذي يصل باعتباره هامشا إلى متن تشكل النساء مادته المتحركة التي تبدي تبرّما بحدود مناطقها الضيقة. لا تصف مال الله من خلال صورها وأفلامها عالم المرأة البحرينية فهي لا ترى في الفن وسيلة للتعريف بل هي تسعى لوضع ذلك العالم في مواجهة سؤال وجوده. تقول "منذ صغري وأنا أحب أن أسأل لأفهم ودائما ما أقوم بتوصية ابنتي الصغيرة أن تسأل في الصف، أن تطرح أسئلة طوال الوقت. الكثيرون يخجلون من السؤال. أظن أن هذه مشكلة. السؤال في بعض الأحيان أهم من الجواب". ولأن هناك مصورات "مسلمات" خضن التجربة ذاتها قبلها فقد حرصت مال الله على أن تحرر منطقتها من أوهام النقد الذي يخلط الأشياء ببعضها لغايات سياسية بدت كما لو أنها جزء من حرب عقائدية. لقد فضّلت الفنانة أن تمارس النقد من الداخل. ما من صورة من صورها تمثل مشهدا عشوائيا خطف جماله عينها بحيث اضطرت إلى أن تبقيه حيا من خلال صورة تلتقطها. ليست وحيدة مصورة كل يوم وكل ساعة بل هي مصورة اللحظات التي تعتقد أن الزمن يتوقف فيها عن التنفس. مصورة حكايات متسلسلة حكايات مصورة وهي إذ تعرض صورها على هيئة سلسلة من الحكايات المصورة فلأنها تدرك أن صورة واحدة لا تكفي. كما أن فيلما بتقنية الفيديو لا يمكنه أن يغني عن كثافة الصورة. تلك مشهدية يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. فالفنانة لا ترى موضوعها من جهة واحدة. إنها تسعى لاحتوائه من خلال النظر إليه من جهات مختلفة. وغالبا ما تكون تلك الجهات ثقافية. وهو ما ييسّر أمامها سبل الممارسة النقدية. مال الله تعيش صورها ولا تصنعها. ولدت مال الله في المنامة بالبحرين عام 1978. حصلت على شهادة في تصميم الغرافيك من المعهد الإقليمي للدعاية والتسويق في البحرين. تعود أولى مشاركاتها الفنية إلى عام 1997، يومها شاركت برسم بالرصاص في أول معرض أقامه مركز الفنون للشباب بالبحرين. انضمت إلى جمعية البحرين للفن المعاصر وتعلّمت الرسم بالأصباغ الزيتية والأكرليلك. مال الله ترى بعين الطفلة التي عاشت لذائذ التجربة. هناك شيء من الضحك المتمرد الذي يصل باعتباره هامشا إلى متنٍ تشكل النساء مادته المتحركة دعاها الفنان أنس الشيخ للمشاركة في معرض "الخروج نحو الداخل"، يومها اكتشفت نزعتها إلى الفنون المعاصرة حيث شاركت بعمل تركيبي. وكان ذلك الحدث أول ارتباطها بالتصوير الفوتوغرافي بالرغم من أنها ظلت ترسم حتى عام 2005. شاركت في بينالي فينيسيا من خلال معرضها "نزهة قروية". وحصلت على إحدى جوائز ملتقى الفنون البصرية بالدوحة. أقامت معرضا استعاديا لأعمالها عام 2016 بعنوان "صوت صغير" في عمارة بن مطر، ذاكرة المكان. منذ البدء شكل جسد المرأة جوهر سؤالها الوجودي بالرغم من أن صورها لا توحي بفكرة معقدة تسبق التصوير. تلك مهارة تعلّمتها الفنانة من العيش المزدوج، بطلة المشهد التي لا تُرى والشاهدة التي تقف وراء عدسة الكاميرا. شغلها الجسد المتدثر بالسواد عن المحيط. ومنذ البدء توزّعت أعمالها بين سلاسل، كل سلسلة تمثل تجربة لا في الموضوع وحده بل وأيضا في الأشكال وتقنية النظر. بدأ ذلك في مجاميعها "الضوء" و"في البيت" و"أسود وأبيض" و"وجهي" و"للبنات" و"صورة فوتوغرافية ملونة" و"أحمر وأبيض" و"الخارج" عام 2013. عالم النساء القويات عالم النساء المغيبات "أنا أستمد الإلهام من النساء القويات والأطفال والموسيقى والأزياء. أعتقد أني أتأثر بكل ما هو حقيقي وصادق. أحيانا لا أنتظر الإلهام، بل أنغمس في مشاريع جديدة لمجرد المحافظة على نشاطي وإبداعي" تقول مال الله. شاركت مال الله في بينالي القاهرة عامي 2008 و2009 وبينالي الشارقة وأقامت معرضا بعنوان "امرأة على شفير الهاوية" في دبي. وعرضت في لاهاي بهولندا وفي مركز جورج بومبيدو ومعهد العالم العربي بباريس ومتحف فكتوريا وألبرت والمتحف البريطاني بلندن. جسد المرأة يشكل منذ البدء جوهر سؤال مال الله الوجودي بالرغم من أن صورها لا توحي بفكرة معقدة تسبق التصوير تمارين يومية تمارسها الفنانة وهي تسعى للتحقق من رؤيتها في الحياة كما في الصورة. لم يكن عليها أن تقف عند الحد الأدنى الذي تفرضه شروط الحياة على المرأة. كان ذلك موضوعها. لذلك سعت بأقوى ما تملك ألاّ تقف في الدائرة التي تقف فيها بطلاتها. كان عليها أن تقف خارج تلك الدائرة لترى ما تعرفه شعوريا وما عاشته على مستوى التجربة المباشرة. "صوت صغير" هل كانت كذلك حقا؟ ولكن ما معنى أن تكون صوتا صغيرا؟ صور مال الله تصنع عالما للفتيات الصغيرات والنساء اللواتي يحطن بها وترعاهن بحنان استثنائي. فهي تقيم هناك. حياتها هناك. لديها ما تقوله نقديا. لم تكن ضيفة في ذلك العالم. لذلك فإن صورها تنطوي على الكثير من المعاناة والشقاء والكلام الذي لم تقله عن الجسد المغيب. النقد من خلال منظور جمالي النقد بصوره الجمالية ربما تمثل مال الله الاستثناء في تصويرها عالم النساء المغيبات وراء حجاب من غير أن تنطوي صورها على نقد سلبي. ما من فضيحة ولا تهكّم ولا سخرية. المعادلات الاجتماعية بالنسبة إلى الفنانة واضحة كونها تعرف ما معنى ما تراه. ولكنها هي الأخرى تعتقد أن المشهد النسوي لا يزال قابلا للاكتشاف من أجل تفكيكه. تنطلق الفنانة من معرفتها في النظر. لذلك فإنها لا تميل إلى تغليب الديني على الاجتماعي. صورها لا تصف بل تذهب إلى عمق الظاهرة الاجتماعية التي عاشتها في ظل فكر ذكوري سبق المجتمعات الحديثة ولا يزال في إمكانه أن يحافظ على سلطته وإن نسبيا. صورها تدافع عن قوة الجسد الذي يبدو معلبا داخل العباءة السوداء ولا يزال كذلك. صيحة المرأة التي تتخطى دائرة المحظورات القبلية والعائلية والدينية تصور مال الله مجتمعا تقليديا لا يزال قادرا على العيش. غير أن ذلك لا يعني أنها تصور الماضي. تلك صدمتها التي ترفض الأرشفة. فصورها هي الحاضر. لا تريد لصورها أن تمضي إلى الذاكرة. هناك ما يقاوم تلك الفكرة في الواقع. وهنا يكمن مفهوم النسوية في ما قدمته الفنانة. فهي تدافع من خلال صورها عن قوة الجسد الذي يبدو معلّبا داخل العباءة السوداء ولا يزال كذلك. صيحة المرأة التي تتخطى دائرة المحظورات القبلية والعائلية والدينية. النقد هنا يتخذ طابعا ثقافيا وليس دينيا. كما أنه لا يفتعل معركة من أجل أن يبتز جهة بعينها. ولكن في الأساس تفكر وحيدة مال الله في الفن. لا تزال الفنانة الذائبة شغفا بالفنون المعاصرة تفكر في جمال الصورة. وهو ما يتعارض أصلا بميلها إلى فكر ما بعد الحداثة. ولكن ذلك قد يكون عنصرا أصيلا في تجربتها الفنية. تلك فنانة تمارس النقد في حق مجتمعها لكن من خلال منظور جمالي. ذلك ما يضعها في موقع متميز بين فناني جيلها. صورها ليست وثائق بل هي لقى جمالية.

مشاركة :