سعد يكن رسام الفراشة في نهارها الوحيد بقلم: فاروق يوسف

  • 12/3/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

التشكيلي السوري كان الإنسان موضوعه دائما حيث استلهم كل تقنياته من حركات الإنسان غير أنّ سؤاله في الرسم كان يذهب إلى ما وراء الإنسان وواقعه المباشر.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/12/03، العدد: 10831، ص(9)]سعد يكن من المسرح إلى الحياة وما بينهما الرسم لندن – لم يعد معنيا بقياس المسافة التي تفصل بينه وبين الواقع الذي صار يقلّد لوحاته. كانت كوابيسه تقع في مكان آخر، مكان لا يصل إليه أحد لأنه جزء من وهم عظيم اسمه الفن فإذا بها تستولي على الحياة وتنشر كائناتها بين مفترقات الطرق. كلما فتح عينيه رأى واحدا منها. “أيّ فائدة لي وسط الخراب والبؤس؟” وجه آخر للمأساة ذلك السؤال فهو لا يتعلق بمصير فرد يعاني الوحدة والعزل والنبذ وشعورا عميقا باللاجدوى، بل هو الصرخة مجتمعة في لحظة واحدة. تلك الصرخة التي كانت كائناته تكتمها بالرغم من أن كل شيء يوحي بها. سؤال الفجيعة ومصير الرسم بعد أن نُهب مرسمه وحُرقت مكتبته في ريف حلب وتشظت تجربته بين المتاهات اكتملت مأساته الشخصية بحادثة الخطف التي صار عليه أن يواجهها بضحكة الشبّيح المنتحل. لقد خطفه الإرهابيون ذات يوم باعتباره شبّيحا وهو التعبير الذي صار متداولا بين السوريين المعارضين تعبيرا عن كون الشخص متعاونا مع القوات الحكومية. حادثة مثيرة للألم والسخرية في الوقت نفسه. ذلك لأن سعد يكن لم يكن يوما قريبا من مؤسسة أو حزب. قبل هجرته إلى بيروت كان الفنان السوري يحاول اللعب مع أشباحه في وقت ضائع ومستقطع من حياة صارت زهورها تذبل ومصابيحها تنطفئ. هل كان يراهن على الفن باعتباره مخلّصا ومنقذا ومبشّرا بلحظة الأمل؟ هذا ما كان وما لم يعد ممكنا بالقوة نفسها. لذلك حمل “يكن” مصيره وأدار ظهره لحلب التي صارت مدينة أشباح. الفنان الذي لم يخذله خياله حين رسم نبوءاته على القماش خذله الواقع حين سبقه إلى عنف متخيّل طرده من جنة حلبه التي ما كان في إمكانه أن يتخيل زوالها. وها هو اليوم يقيم معرضا جديدا للوحاته التي فارقتها السخرية في غربته ببيروت بتنظيم من صالة قزح الدمشقية. لقد تبدل كل شيء. تبدل العالم من حوله. وتبدلت فكرته عن الرسم. فـ”الفراشة” هو عنوان معرضه الجديد وهو اسم ذو دلالة مقارنة بما يشهده بلده من خراب.الفراشة عنوان معرضه الأخير ببيروت حيث يقيم لا أثر مباشرا للفاجعة السورية. يبدو الرسام الذي سويت مدينته بالأرض مهتما بتطبيع علاقته بالرسام الأيرلندي فرانسيس بيكون الذي يحبه بطريقة تجعل من ذلك الرسام التعيس سعيدا ولد سعد يكن عام 1950 في حلب من أب تركي وأمّ سورية. في وقت مبكّر درس الفن في مركز الفنون التشكيلية بحلب وتخرج منه عام 1964. أقام معرضه الشخصي الأول عام 1969 قبل أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة بدمشق لسنتين. قضى في دراسة الفن سنتين “غادرت في إجازة أسبوعية وحتى الآن لم أعد إلى كلية الفنون الجميلة” يقول يكن. بعد تركه الدراسة تفرّغ للفن وأدار صالة فنية بحلب حملت اسم “النقطة”. عمل يكن في تصميم الديكور المسرحي وشغف برسم المشاهد المسرحية. فإضافة إلى ما شهده مسرح الشعب من خلفيات مسرحية صمّمها يكن لمسرحيات كتبها كبار مؤلفي المسرح السوري مثل وليد إخلاصي وحسين أدلبي وعبدالرحمن حمود فقد عُرف عنه ولعه في رسم الممثلين وهم يؤدون أدوارهم على خشبة المسرح. “كل الممثلين كانوا في نظري هاملت”. أنجز في تلك المرحلة الآلاف من الرسوم الصغيرة “سكيتش” شكلت تلك الرسوم في ما بعد مصدر إلهام لعالمه الذي يضج بالحركة والأقنعة والتداخل بين الشخصيات. عام 1981 حظي بدعوة من الحكومة الأميركية لزيارة الولايات المتحدة ضمن برنامج فنيّ كان هو العربي الوحيد فيه. عام 1986 بدأ بتدريس الأطفال المعاقين الرسم في دار المبرة بحلب واستمر في ذلك العمل خمس سنوات. انضم إلى الفضائية السورية عام 1996 معدّا ومقدما لبرنامج عن الفنون. عُرف يكن بغزارة إنتاجه. فبين العام الذي ترك فيه الدراسة بدمشق وعام 1976 رسم يكن ما يقارب الـ22 ألف “سكيتش” عن حلب، مقاهيها ومسارحها وأحيائها وأزقتها وباعتها المتجولين. أن ترسم ما لا يرى غزارة يكن في الرسم وهي انعكاس لتفرغه الفني كانت مغامرته الكبرى التي أنتجت عشرات المعارض فكان لابن حلب النصيب الأكبر من المعارض الفنية.تجربة سعد يكن فالتة من المعايير الجاهزة ينسبها البعض للتعبيرية النقدية. ذات يوم أقام سعد يكن معرضا بعنوان “100+ 1” في استعارة واضحة من الليالي العربية. نفذ الفنان رسومه الصغيرة بمادة الإكرليك على صحون يُمكن استعمالها من غير أن تزول تلك الرسوم. مغامرة يمتزج فيها الفن بالحياة. وهو ما تعلمه يكن من حياته التي امتزج فيها الوهمي بالواقعي فكانت الحقيقة هي ذلك المزيج السحري. يكن هو ابن المسرح وابن الحياة معا. كانت حلب بالنسبة إليه مسرحا كبيرا ناسها هم الممثلون الذين افترض أن كل واحد منهم هو هاملت. كانت حلب بالنسبة إليه ملعبا خياليا لأبطاله الذين يستعيرهم من الحياة ومن الفن في الوقت نفسه. يقول الناقد عمران القيسي في تفسير العلاقة التي جمعت بين الفنان ومدينته “عالم مدينة حلب هو العالم المحشوّ بالتراث، والغناء كموروث سواء على مستوى القدود الحلبية أو التخت الموسيقي وأقطابه مثل صبري المدلل وغيره، لا بد من صياغته تشكيليا خارج إطار الحالة أو الحالات التسجيلية كما في لوحات بعض الفنانين الحلبيين القدامى. ولهذا يذهب يكن صوب خط آخر يعتمد الإذابة التشريحية للجسد”. لقد رسم يكن الموسيقيين في لوحات عديدة غير أنه لم يلجأ إلى وصفهم بقدر ما حاول أن يستلهم حالاتهم. الحالة التي يبدو فيها الموسيقي ممتزجا بالإيقاع. صورة الإنسان مهمة وضرورية بالنسبة إلى رسام تشخيصي من نوع يكن، ولكن غلبة التعبير تقدم الإيقاع على الوصف. وهو ما يقودني إلى القول إنّ يكن حاول من خلال مرئياته أن يرسم ما لا يُرى. العيش من خلال الجمال الصخب والقلق والمحبة والأخوّة والصفاء والخوف والذعر وسواها من الوقائع النفسية التي لا يمكن التقاطها من خلال صورة. سعد يكن هو ابن تجربة فالتة من المعايير الجاهزة وإن كان البعض ينسبه إلى التعبيرية النقدية وهي المقابل الشعري للواقعية النقدية.يكن لم يخذله خياله حين رسم نبوءاته على القماش خذله الواقع حين سبقه إلى عنف متخيل طرده من جنة حلبه التي ما كان في إمكانه أن يتخيل زوالها. وها هو اليوم يقيم معرضا جديدا للوحاته التي فارقتها السخرية في غربته ببيروت بتنظيم من صالة قزح الدمشقية. ترك يكن الواقع المأساوي الذي يعيشه بلده لعدسات التصوير. يقول “الكاميرا الفوتوغرافية هي الأقدر على تصويره بشكل مباشر وهذا ما نجح فيه المصوّرون نجاحا هائلا لذلك لا يمكن للفنان التشكيلي أن يعمل كمصور فوتوغرافي لنقل تفاصيل الأزمة حرفيا سواء بتصوير الشهداء أو الأمّ الثكلى أو الخراب والدمار الحاصل”. في “الفراشة” وهو معرضه الأخير ببيروت حيث يقيم لا أثر مباشرا للفاجعة السورية. يبدو الرسام الذي سوّيت مدينته بالأرض مهتما بتطبيع علاقته بالرسام الأيرلندي فرانسيس بيكون الذي يحبه بطريقة تجعل من ذلك الرسام التعيس سعيدا. لعبة حاول من خلالها الرسام أن يصل إلى هدفه “لقد عشنا ولا نزال قادرين على العيش في أرقى لحظات رقّته”. يعرض سعد يكن من خلال معرضه هذا الفن بديلا مخلصا وهو يدرك أنه يتشبث بآخر عشبة من أعشاب الحياة كما فعل جلجامش الذي طالما رسمه. كان الإنسان موضوعه دائما. استلهم يكن كل تقنياته من حركات الإنسان غير أنّ سؤاله في الرسم كان يذهب إلى ما وراء الإنسان وواقعه المباشر. لقد غلبت اللعبة المسرحية وكانت الأقنعة مجرّد وسيلة اتصال. هناك شيء ما ضائع يشعر به المرء ما أن يلقي نظرة سريعة على لوحات يكن. كل هذه الحشود التي يرسمها تبحث عن ذلك الشيء. لذلك يحرص الرسام على عزلة كائناته. يرسمها مجتمعة غير أن أحدا منها لا يمتّ بصلة إلى الآخر. “لقد كنّا أفرادا ضائعين ولا نزال كذلك” فهل ستجمعنا الفراشة في حياة هي نهار واحد؟

مشاركة :