في مطلع عام 1965، انطلقت حركة فتح وأطلقت معها الثورة الفلسطينينة المعاصرة.. قرار كبير بهذا الحجم لم يولد من العدم، ولم يسر في عقول وقلوب خامدة، بل الانطلاقة قبل أن تتم وتتحقق على أرض الواقع مرت بمراحل كثيرة، ومتعرجات متعددة، ومحاولات سابقة صاغها الواقع المأساوي للشعب الفلسطيني وسط أمته العربية والإسلامية ووسط القوى الدولية الكبرى التي تحكم العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن الخلية الأولى التي اتخذت قرار الانطلاقة كانت منهمكة بشكل كامل في قراءة مستجدات القضية الفلسطينية، وأولها أن فلسطين شطبت من الخريطة، وحل محلها اسم افتراضي، مؤلف من الخرافة، ومؤلف من طغيان الانحياز الدولي الأحمق.. فمثلاً الرواية التي روجها قادة الحركة الصهيونية بأنهم ليسوا محتلين بل عائدون إلى وطنهم القديم، كانت رواية سخيفة تثير الاشمئزاز والسخرية، والذين تعاملوا بقسوة مع اليهود لم يكونوا نحن الفلسطينيين مطلقاً، بل هم شعوب الدول الكبرى التي تنحاز إليهم الآن بما يوحي بمأساة كبرى! المهم أن النكبة وقعت، وهجر الفلسطينيون من أرض وطنهم بقرار دولي بامتياز وهو قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، وهو قرار عجيب، لأن الذين فرضوه وقفوا مع إسرائيل بعدم الاعتراف به.. وإلا فما هو الاستيطان ومن هم المستوطنون؟ لكن رغم كل شيء، فإن الفلسطينيين في مطلع عام 1965، سجلوا في المشهد حضوراً مدهشاً، ولم يندثروا، ولم ينتهوا، وفي تلك السنوات منذ عام 1948 حتى عام الانطلاقة، حدثت تراجيديا لم يحدث مثلها في التاريخ، حتى إن الفلسطيني حرم من مجرد حائط مبكى.. كان محرماً عليه البكاء. أقول ذلك للاعبين جدد حفظوا عن ظهر قلب قاموسا لغويا آخر يستخدمونه عند الخطابة الفارغة، قاموسا شكلانيا، يستبدل الوجع العميق بجمل لفظية فارغة، ولهذا نقول إن الوطنية الفلسطينية عاشت وانبثقت في الانطلاقة بشكل أقوى وأكبر وأشمل من كل منابر الخطابة الفاترة.. فيا أيها الفلسطينيون، لا تبيعوا أحزانكم العظيمة في مواسم المراثي الهزلية، ولا تضعوا سيوفكم في خدمة مواسم المبارزات الشكلية، أنتم أعلى ينابيع الحزن وأنتم أدرى بالجراح التي تنبثق منها الدماء. منذ أول يوم في عام 1965، منذ الانطلاقة، لم يحدث شيء في الدنيا أعمق من إعادة حضور الشعب الفلسطيني، حضور الفلسطيني بانطلاقة فتح والثورة المعاصرة، أكبر ألف مرة من كل التهم التي وجهت إلينا، ومن كل الشكاوى التي سجلت ضدنا، وكل عربي ومسلم ومسيحي هو مدين لنا بحضورنا.. انتظروا كيف كان يمكن أن يكون شكل العرب والمسلمين لو لم يحضر الفلسطينيون على طريقتهم الخاصة، إنهم يعرفون ما الذي يحدث، ويتسربون من بين شقوق الأرض، .. طوبى للذكرى، احتفلوا بها بمزاج فلسطيني، ولا تقولوا للآخرين أن يلتحقوا بكم، إنهم عاجزون لا يستطيعون، بل إنهم إذا التحقوا بكم يكون هذا من أجل الحسرة عليكم، فلا تصدقوا، ولا تأمنوا. { كاتب من فلسطين
مشاركة :