غاب علاءالدين صادق الأعرجي، صاحب “أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي” وثمانية أعمال أخرى، بعد معاناة طويلة مع المرض. إلا أن معاناته الأشد ظلت مع التخلف، حتى رحل في نيويورك صبيحة السادس عشر من ديسمبر الماضي. لقد كتب هذا الرجل أعماله في ظرف سياسي واجتماعي عسير، حتى لكأنه كان يخاطبنا من النهايات المأساوية التي بلغها معترك التخلف. ولئن غلبت مظاهر النزاعات والحروب الأهلية وأعمال الإرهاب على المشاغل العامة، حتى لم يعد الاهتمام بالفكر يمتلك الرفاهية اللازمة لخوض النقاش حوله، لنغرق في وحل الخبر اليومي للأحداث المأساوية التي تقع هنا وهناك وهنالك، فإن شيئا من يقظة الوعي يظل ضروريا للبحث في الأسباب والأسس. نحن من يصنع التخلف الأعرجي يقر إقرارا جليا بأن الظواهر الاجتماعية تختلف عن الظواهر الطبيعية. فبينما تميل الظواهر الطبيعية إلى الثبات، كثيراً ما تفلت الظواهر الاجتماعية من قيود الصرامة القانونية أو القياسية سوف نرى بوضوح أننا نحن من يصنع التخلف، ومن يحافظ عليه، ومن يجعل دوائره تدور علينا. ألم يقل سبحانه وتعالى “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. الأعرجي ينظر في هذه النفس حصرا. ويكشف عن مفاهيمها وأفعالها، وكيف تحول التخلف إلى نظام عقلي مسيطر. وقد يمكن القول إنه ابتدع منهجا مختلفا عن المناهج المعاصرة في رؤية أسباب التخلف. ولكن لو جاز لعلم الاجتماع أن يقتصر على منهج واحد، لكان قد توقف عند قدمي ابن خلدون، ولم يمض خطوة واحدة أبعد منه. يقر الأعرجي إقرارا جليا بأن الظواهر الاجتماعية تختلف عن الظواهر الطبيعية (انظر على سبيل المثال، ص 20 من كتابه “الأمة العربية بين الثورة والانقراض”). فبينما تميل الظواهر الطبيعية إلى الثبات إلى حد أن المرء يستطيع أن يستخرج منها قوانين صارمة، فإن الظواهر الاجتماعية كثيرا ما تفلت من قيود الصرامة القانونية أو القياسية. بمعنى آخر، فنحن عندما نتحدث عن “مجتمع” فإنما نقف إزاء معادلة تتحرك عناصرها باستمرار. يحتل بعضها أولوية في زمان دون غيرها، ويضاف إليها، ثم تعود لتتغير، كما تتغير مواقعها. الأمر الذي يجعل الخروج بمعادلة ثابتة النتائج واحدا من أكبر الأخطاء، من الأساس. ولسوف يكون من عميق اللاتبصر ألا يلاحظ الباحث أن لهذه القبلية “عقلا” خاصا بها، تحدده مفاهيم ومعايير وقيم لا تتشابه مع أي مفاهيم ومعايير وقيم تخضع لها شعوب أخرى. و”العقل” هنا إنما هو المنهج الحياتي، والنظام “المؤسسي”، كما أنه النظام الأخلاقي والمعنوي، والطريقة التي يتم من خلالها إخضاع الموارد والإمكانيات، حتى ليجوز القول إن “اقتصاد القبيلة” ليس كمثل “اقتصاد الطبقة”، أو “الاقتصاد الاجتماعي” الذي يمكن أن تجسده “الرعوية” أو “الإقطاعية” أو “الرأسمالية”. فذلك الاقتصاد شيء، وتلك الاقتصادات أشياء أخرى. وفي الواقع، فإن لهذا التمييز أهمية استثنائية في فهم نظرية الأعرجي القائلة “بعدم مرور العرب بالزراعة”. وهي التي لم يفهمها الكثيرون، بمن فيهم كاتب هذه السطور، حتى أتيح له أن يدرك الفارق الجوهري الذي حكم معادلة الزراعة في جغرافيا المنطقة، وبدرجة أقل في تاريخها. يُعاب على الأعرجي أنه، في ما يتعلق بهذه النظرية، لم يلحظ أن الزراعة كانت قائمة في كل العصور، بل وأن العرب كانوا يزرعون قمحا وشعيرا وأعنابا وثمارا شتى، وأن القرآن الكريم نفسه ذكر جنانهم وبساتينهم. فأنى لأي أحد أن ينسى أن وادي النيل ووادي الفراتين كانا أرض زراعة ومزارعين؟ ما يلفت الانتباه هنا أمران، لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر. الأول، هو أن اقتصاد الزراعة في الجغرافيا العربية كان اقتصاد قبليا، لا اقتصادا طبقيا. والفارق بين هذا وذاك كبير إلى درجة أن إهماله أو نكرانه أو الخطأ فيه، سوف يؤدي إلى خلل جسيم في كل نتائج المعادلة المطلوب قراءتها. ولأن الزراعة في الجغرافيا العربية كانت كذلك، فإن أثرها في صناعة التاريخ ظل محدودا إلى درجة مذهلة. الكثير من الأمثلة والوقائع في تاريخنا العربي والإسلامي جديرة بالإدانة، ولكن المشكلة تكمن في فهم السياق الاجتماعي الذي حولها إلى سلوكيات ذات طبيعة همجية لم تنشأ رأسمالية عربية حقيقية، ولا نظام سياسي يجسد مصالح طبقية، لأن الزراعة نفسها لم تكن نظاما يجسد مصالح طبقية. ولقد ورثنا، وما نزال ندفع ثمن العجز عن أن نكون أمة تعرف شيئا أكثر من تجارة النفط، لنقيم نظاما سياسيا يعتمد بالدرجة الأولى على ريع النفط، لا على عوائد الإنتاج المادي والثقافي أو العلمي. أما الثاني، فهو أن نظر الناقدين لنظرية “عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة” إنما يقع على الزراعة، بينما ينظر الأعرجي إلى العرب أنفسهم. يقول الأعرجي في الفصل الثاني من كتاب “الأمة العربية الممزقة بين البداوة والحضارة” إنَّ العربَ “لم يمرُّوا بمرحلة الزراعة، على نحوٍ يكفي لمحو الخصائص البدوية، بل انتقلوا من البداوةِ إلى الحضارة، متجاوزين مرحلةَ الزراعة، بشكلٍ مباشَر وسريع، بعد فترةٍ قصيرةٍ من بداية الفُتوح الإسلاميَّة. وأَدَّى ذلك إلى عدَمِ زوالِ القِيَم البدويَّة الراسخة في العقلِ المجتمعي العربي. عِلما بأنَّ المرورَ بمرحلةِ الزراعة، الذي هو أُسُّ الحضارة وقاعدتُها الصَّلدة، يؤَدِي إلى صَقلِ الطباع البدويَّة وتهذيبِها، أو بالأحرى تعديلِها وتغييرِها، نظرا لأنَّ العقلَ المجتمعيَّ ما هو إلا مرآةٌ للبيئة التي يعيشُها المجتمع. ومن الطبيعي والمنطقي أن يتجاوزَ المجتمعُ العربيُّ مرحلةَ الزراعة. فقد كان العربُ يحتقرون المِهَنَ بوجهٍ عام، كما يظهرُ ذلك في قولٍ مشهورٍ للجاحظ: العربُ لم يكونوا صُناعا… ولا أصحابَ فِلاحة فيكونوا مَهَنَة، ولا أصحابَ زَرع… ويؤكدُ ابنُ خلدون هذا المعنى في عدَّةِ مناسبات في مقدَّمته”. وابن خلدون نفسه أيضا يقول “إن رزق العربي في رأس رمحه”. الكثير من الأمثلة والوقائع في تاريخنا العربي والإسلامي جديرة بالإدانة. ولكن المشكلة تكمن في فهم السياق الاجتماعي، أو لنقل سياق طبيعة العقل المجتمعي السائد، الذي حولها إلى سلوكيات ذات طبيعة همجية. ولكن هذا شيء، و”الحضارة” بمفهومها الشمولي شيء آخر. لا يصح، من حيث المبدأ، رهن المفهوم بجزئيات ولو كانت تنطوي على مدلول جدير بالبحث. وفي الواقع، فقد كان هذا هو ما فعله الأعرجي، إذ أنه أخضع كل تلك الجزئيات ليستخرج منها دلالات نظرية لافتة. ولكن عندما يتصل الأمر بالمعنى الشامل للحضارة، فلقد كنا أهل حضارة عربية عظيمة بالفعل. وعندما نقول “عربية” فإنما نعني اللغة والدين والعلوم والفكر. ولقد حقق العرب والمسلمون في هذه الحقول إنجازات خالدة، وشقوا طرقا في المعرفة لم يشقها قبلهم أحد. وتوسعوا في علوم الطب والفلك والفيزياء والرياضيات، مما ترك أثرا لا يُمحى في تاريخ الإنسانية. هل حدث كل ذلك من دون أساس، أو من دون قاعدة مادية ومعرفية؟ العرب والبدونة الأعرجي يطرح طريقاً مختلفة عن مقترح الجابري لفهم طبيعة ومكونات «العقل العربي» الأعرجي يطرح طريقاً مختلفة عن مقترح الجابري لفهم طبيعة ومكونات "العقل العربي" العرب، من حيث الأساس والمبدأ، هم كذلك لأنهم ينطقون بالعربية. عربي كل من نطق بالعربية. وهو حال لا نختلف فيه عن الفرنسيين الذين يعتبرون اللغة هي الأساس والمبدأ للانتساب إلى “قومهم”. طبعا نحن نعرف أن هناك أسسا أخرى، اقتصادية وثقافية، ولكن على الأقل، فإن اللغة هي أول ما ينظر الفرنسيون إليه كمعيار من معايير الهوية القومية. الإشكالية التي جعلت من القومية العربية معاقة مستمدة هي الأخرى من إشكالية “البدونة”، ومن إشكالية الاقتصاد الذي ظل ريعيا. ومن عجزها عن أن تتوفر على نظام سياسي ومؤسسي لم يتحول إلى نظام قبلي. ولقد انتهينا إلى أن نستبدل القبلية بالجهوية، أو المناطقية، أو الطائفية، ولكنها كلها تؤدي الغرض نفسه، وهو المحافظة على التخلف القائم، بأسسه ومفاهيمه نفسها. ونادرا ما ظهر “عقل فاعل” يملك الجرأة على نقض المسالك التي يختارها “العقل المجتمعي” ويفرضها على كل المنفعلين به، أو المسجونين بين جدرانه. ولئن كان هناك من يأخذ على الأعرجي أنه تأثر بالمفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، لاسيما في مشروعه الفكري الكبير نقد العقل العربي، فالحقيقة هي أن الأعرجي بدأ معه على اختلاف، والتقاه على اختلاف، وظل الاختلاف قائما حتى فرّق بينهما الموت. لقد وضع الأعرجي كما فعل آخرون إصبعا على الجرح. وسعى من أجل أن يوقف النزيف فيه، وذلك بأن كشف عن علة التخلف من زاوية أخرى. أزمة التطور أعمال الأعرجي تخاطبنا في ظرف سياسي واجتماعي عسير من النهايات المأساوية التي بلغها معترك التخلف أعمال الأعرجي تخاطبنا في ظرف سياسي واجتماعي عسير من النهايات المأساوية التي بلغها معترك التخلف لم يتردد الأعرجي في سرد حزمة من الظواهر التي تؤكد ارتباط “مسيرة التخلف” التي سارتها الأمة العربية على امتداد عدة قرون بحال “العقل المجتمعي” العربي ومفاهيمه وأطره وقوالبه المتوارثة والجاهزة. وهي مفاهيم وأطر وقوالب تكاد تمس كل وجه من وجوه الحياة والعمل، بل كل وجه من وجوه السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والإدارة العامة. بعض التواضع حيال أعمال المفكرين الآخرين دفع القراءة المتعجلة إلى القول بأنه تأثر بالجابري. والحال، فلقد تأثر الأعرجي بأستاذه علي الوردي أكثر مما تأثر بالجابري، ولاسيما في كتبه “دراسة في سوسيولوجيا الإسلام” و”شخصية الفرد العراقي” و”دراسة في طبيعة المجتمع العراقي”، فضلا عن أعمال أخرى. والتأثر هنا لم يكن في الواقع إلا ميدانا للتبصر. فالعادات والتقاليد والقيم الاجتماعية التي عمل الوردي على تفكيكها، أعاد الأعرجي جمعها وتركيبها ليخرج منها بخلاصات ثرية كانت هي التي حددت معالم “العقل المجتمعي” بين يديه. وهي التي أنارت الطريق إلى التمييز الفذ بين “العقل الفاعل” و”العقل المنفعل”، وذلك عندما رأى سطوة الثاني على الأول، وكيف تحول إلى سلطة حاكمة في السلوك الاجتماعي من جهة، وفي النظر إلى الدين من جهة أخرى، وفي ممارسة السلطة نفسها من ناحية ثالثة. ولقد سبق للأعرجي أن رسم في أعماله، لاسيما كتابه “أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي: بين العقل الفاعل والعقل المنفعل” مجسما شديد التطابق مع حالة التخلف، أسسها، وقوتها التي تدفع بهذه الأمة نحو الانقراض. لقد شق بذلك طريقا مختلفا عن الطريق التي اقترحها الجابري لفهم طبيعة ومكونات “العقل العربي” وأسباب عجزه عن ملاحقة متطلبات التحديث. نظرية الأعرجي القائلة بـ"عدم مرور العرب بالزراعة"، يُعاب عليه أنه لم يلحظ فيها أن العرب كانوا يزرعون قمحا وشعيرا وأعنابا وثمارا مختلفة، وأن القرآن الكريم نفسه ذكر جنانهم وبساتينهم أحد أكثر ما يثير الاعتراض على الأعرجي هو أنه حذر من إمكانية انقراض الأمة العربية. وكانت تلك أطروحة استثنائية من جانب كل أولئك المطمئنين إلى حال التخلف الراهن، أو الذين لا يريدون أن ينظروا إلى عواقبه التاريخية. يجرؤ الأعرجي على القول إننا ذاهبون في طريق الانقراض. ويقدم دلائل شديدة الوضوح على ذلك. ويعيد المسألة إلى أن هيمنة “العقل المنفعل” تشكل بحد ذاتها حائلا دون الخروج من دائرة التخلف. في مقال لمجلة “أخبار الأدب” أعاد جمال الغيطاني طرح السؤال، قائلا إن الأعرجي “قدم سبعة عشر مؤشرا لتدهور الحاضر العربي”، ولقد مضى “العقل المجتمعي” العربي في دوائره المغلقة إلى الحد الذي حول حياتنا إلى سجن عصيب ومحكم. وحيثما يجد السجين نفسه محشورا بين جدران مفاهيمه الخاصة، فإن “السجن المجتمعي” كان يفرض تصوراته وقناعاته على المجتمع برمته، ويجعل من الأجيال المتعاقبة تدور بين جدران السجن ذاتها حتى تحولت تلك التصورات إلى رحى تطحن كل وجه من وجوه العيش خارج السجن، بل أنها تنبذه أيضا، راضية بما لديها، ومكتفية بريع ما دأبت على العيش به وعليه. لقد شق الأعرجي طريقا آخر لفهم ظاهرة التخلف، مطابقاً لكل ما نعرفه عنها، حتى ليجوز القول إنه يستند إلى رؤية عميقة لطبيعة ومكونات الوعي السفلي في المجتمع. وعلى رغم كل ما قد يبدو من تشاؤمية النظرة إلى الواقع، فالواقع هو أن معرفة جوهر العلة، نصف الطريق نحو الشفاء. وهو ما يؤدي إلى عكس الانطباع الأول، ليكون شديد التفاؤل بالممكن. فالتخلف ظاهرة، ما أن تراها بوضوح، وما أن ترى عواقبها، حتى يكون علاجها قد أصبح ممكنا. لقد فتح الأعرجي باباً يستحق أن يتم التمعن فيه. وأن تؤخذ مفاهيمه ومنطلقاته النظرية بعين الاعتبار، وأن ننظر إلى التحديات التي يطرحها بعقل فاعل، يجرؤ على نقد الواقع، بعين العالم الراغب بتأسيس واقع أفضل.
مشاركة :