كنت ومازالت من المولعين بكتابات خالد البسام رحمه الله، خاصة تلك المتعلقة بالتاريخ الثقافي والاجتماعي للبحرين، وذلك لأنه نجح في التركيز في ابتكار لغة جذابة تجمع بين السلاسة والدقة في سرد (الحكايات)، وقد يكون الاشتغال بالعمل الصحفي الاستقصائي - الذي يكاد يختفي في الصحافة البحرينية اليوم - هو الذي قاده الى هذا الكنز من الحكايا التي نجح في تشكيل نسيج متجانس منها، ومازالت اذكر ما قاله لي الراحل في نهاية العام 2001م في لقاء صحفي مطول: البداية الحقيقية - والكلام للبسام - كانت عندما انشغلت بإعداد موضوع صحفي عن الأندية في البحرين، فعثرت على العديد من الوثائق في نادي العروبة.. كانت مهملة تماماً في غرفة مظلمة يعلوها الغبار.. وما زلت أتذكر تلك اللحظات الأولى المليئة بالمفارقات والأوراق الصفراء المغبرة تذوب بين أصابعي وأحاول فتحها بحنوٍ وعشقٍ عجيبين.. لقد عثرت على ثروة حقيقية حول التاريخ الثقافي والسياسي للبحرين.. كنت متعطشاً إلى أبعد الحدود إلى التفاصيل المهملة، فوقفت عند حوادث طريفة وشخصيات وقصص.. مئات الهوامش الصغيرة المجهولة، فدفعني ذلك إلى كتابة زاوية في مجلة (بانوراما الخليج) البحرينية بدءًا من سنة 1983 بعنوان (ذكريات)، وهذه التجربة قادتني إلى البحث في أرشيف بقية الأندية البحرينية الأخرى: الأهلي، نادي البحرين وغيرها، وكان المسؤولون عن هذه الأندية الذين فتحوا لي خزائن الأرشيف يرثون لحالي وأنا أدخل الغرف المظلمة المغبرة تعلوها خيوط العنكبوت.. وتفوح منها رائحة الإهمال والتلف... لقد تمتعت بمطلق الحرية في التعامل مع هذه الوثائق دون قيود، فكانت تلك تجربة جميلة ومدهشة ولذيذة، وفيما كان الأخوة في الأندية يرثون لحالي وأنا أقضي الساعات في الظلام وبين خيوط العنكبوت، كنت أرثى لتاريخ بلدي وهو ملقى في غرف مظلمة تأكله الرطوبة والأتربة... وفي هذه الغرف المظلمة - يضيف خالد البسام - اكتشفت طريقاً جديداً، اكتشفت كنزي الثمين، وكانت رحلة جميلة ومدهشة تعادل في رأيي تجربتي الصحفية كلها... وقادتني هذه الرحلة إلى آفاق أخرى، فأضحيت أبحث عن تفاصيل تاريخ الأندية الأخرى التي لم يكن لها أكبر أرشيف، مثل النادي الأدبي، فاكتشفت كتابات المرحوم مبارك الخاطر. وقد كانت تلك الكتابة رغم ثقل أسلوبها التقليدي مدهشة جدًا بالنسبة إليَّ، فلقد فتحت عيني على التاريخ المنسي وهو التاريخ الاجتماعي والثقافي. وبدأت أنخرط في كتابة الزوايا انطلاقًا من كنوزي التي اكتشفتها. وعن قصة انتقاله من (زوايا) الصحافة إلى إعداد الكتب، اكد لي البسام - رحمه الله - تلك تجربة ثانية جديرة بأن تروى.. كانت البداية في 1986، عندما طلب مني إبراهيم بشمي جمع زوايا (ذكريات) في كتاب.. لم أتقبل الفكرة بسهولة، كنت متخوفاً متردداً.. لقد ترسّخ في ذهني آنذاك بأن الكتاب لا يكون إلا على نحو مخصوص بحثاً مهماً أو كتاباً أدبياً ضخماً عظيم الشأن. لم أكن أحسب بأن حكايات وقصاصات صغيرة وهوامش حكائية يمكن أن تتحول إلى كتاب.. والمهم أنني خضت التجربة، وحققت نجاحاً مدهشاً، وكان حاسماً في حياتي ككاتب، لأن ذلك الكتاب لو فشل لكانت التجربة قد انتهت عند ذلك الحد، إلا أن الكتاب لقي رواجاً فاق كل التصور، فقد نفدت الطبعة الأولى خلال شهرين فقط، وتم طبع الكتاب للمرة الثانية بعد ثلاثة أشهر فقط. لقد فوجئت بهذا الإقبال المدهش.. ولكنني فهمت الدرس، لقد كان الناس في البحرين متعطشين إلى هذا التاريخ الآخر، وقد قاد - بالمناسبة - نجاح هذا الكتاب إلى ظهور كتب كثيرة تقلده، وما يزال كتاب (تلك الأيام) الصادر في 1986 مطلوبًا إلى اليوم.. وقد أعطاني ذلك دفعة قوية جدًا وهائلة للانتقال إلى مرحلة جديدة من البحث والتقصي في عالم التفاصيل، حتى أن هذا الكتاب (تلك الأيام) أصبح ضمن مناهج الدراسة الإعدادية في مدارس البحرين، وهذا حقًا ما يثير فخري. ولعل النجاح المنقطع النظير الذي حققه البسام في هذه الحكايات هو ما شجعه لاحقاً على الذهاب إلى بريطانيا للاطلاع على الوثائق البريطانية الثمينة الخاصة بتاريخ البحرين، فعندما بدأ يبرز ككاتب مهتم بالتاريخ والوثائق.. كانت تلح عليه فكرة الاطلاع على الوثائق البريطانية من اجل البحث والتقصي والمقارنة، ولذلك كان يردد: إذا لم تطلع على هذه الوثائق فإنك لا تعرف شيئًا من التاريخ... وكان البسام آنذاك يعمل في إحدى الصحف عندما قرر أن يخوض المغامرة ويذهب إلى بريطانيا للاطلاع على هذه الوثائق السحرية: لقد واجهتني صعوبتان - والكلام هنا للبسام خلال لقائي معه: الأولى أنني لا أستطيع أن أحصل على إجازة للدراسة، بل إن إدارة الصحيفة طلبت مني تقديم استقالتي إذا كنت سأغادر للدراسة، وقد تغلبت على هذا العائق بالاستقالة دون تردد، تركت عملي وراتبي ومستقبلي المهني ورحلت لا ألوي على شيء. أما الصعوبة الثانية فتتعلق بعدم إتقاني اللغة الإنجليزية التي تؤهلني للاطلاع على الوثائق.. وفكرت ثم قررت أن أعود إلى مقاعد الدراسة، فذهبت إلى مدينة أكسفورد في بريطانيا ودرست تسعة أشهر حتى أتقنت هذه اللغة بقدر ما استطعت، وانعزلت عن العالم الخارجي، واجتهدت إلى أن وصلت إلى المرحلة التي تؤهلني للقراءة في الوثائق.. وبمجرد امتلاكي لسلاحي الجديد، مضيت رأسًا إلى البحث والدراسة، ودخلت إلى (مكتب الهند) بالمكتبة البريطانية بلندن. وفي منطقة (وانزلو) في لندن، وبالتحديد في 197 شارع (بلاك فير) كانت أطنان من الأوراق والسجلات التاريخية القديمة والكتب عن منطقة الخليج والجزيرة العربية والهند وجنوب شرق آسيا، في مبنى يتكون من 11 طابقًا يسمى (مكتب الهند)، كانت كلها تنتظرني. لقد دخلت المكتبة - يقول البسام - ووجدت نفسي في عالم جديد تحتل فيه الوثائق مكانة راقية، لا غرف مظلمة ولا غبار ولا خيوط العنكبوت.. في البداية دخلت مكاناً فسيحاً نظيفاً مرتباً مليئاً بالمجلدات، فظننته المكتبة، فقيل لي أن هذه مكتبة الفهارس فقط.. فأصبت بالدهشة..!! فإذا كانت هذه هي مكتبة الفهارس فكيف ستكون مكتبة الوثائق؟ وباختصار اكتشفت عالمًا عجيبًا مدهشًا، محيط لا بداية له ولا نهاية.. طلبت الملفات وكان كل همي تاريخ بلدي.. ستة أشهر أمضيتها مثل الناسك المتعبد من الصباح إلى المغرب دون انقطاع إلا لبضع دقائق لتناول سندويتش بسيط في المقهى المقابل للمكتبة.. توقفت عن التدخين تقريبًا رغم أنني كنت مدخنًا آنذاك، وكان التدخين ممنوعًا مطلقًا في المكتبة، وحرمت نفسي من الطعام والراحة والفسحة. كنت كطفل يكتشف كنزًا آخر عظيمًا، فقد سحرتني الوثائق وأخذتني أوراق المكتبة البريطانية إلى عالم جميل بين روزنامات التاريخ، كنت أقرأ وأصوّر وأترجم وأنتقي من الوثائق ما يهم البحرين بالدرجة الأولى. وأزعم بأنني اطلعت على أغلبها، لقد اطلعت على الأهم واستفدت منها. قرأت الهوامش والمتون، كل شيء تقريبًا: قضية حمد بن ملك صباب القهوة في الوكالة، وميزانية مستشفى الإرسالية الأمريكية، واستيراد الشاي في 1905، وإمكانية دخول كلب إلى البحرين، وهروب النساء إلى بيت الدولة، وحفلات بيت الدولة، ومدرسة اللواء، وضحايا الطب واللصوص ونادي السيارات، والإعلانات وبدايات السينما والتمثيل، والمجانين والراديو والمطبعة، وإطارات السيارات وصراع الكراسي، وأحوال الطقس وعدد أكياس السكر والقهوة التي تدخل البحرين.. الخ، لقد قرأت تقارير المخابرات البريطانية منذ العام 1913، ولأن الإنجليز اشتهروا بدقتهم وتسجيلهم حتى لدرجات الحرارة في تقاريرهم فلن تصاب بالدهشة عندما تقرأ آلاف الأوراق التافهة والسخيفة، وكان لا بد من قراءتها... المهم أنه في منطقة (وانزلو) بدأت أجمع وأؤلف وأنسج حكايات التاريخ الجديدة انطلاقًا من الهوامش والمعلومات والتفاصيل التي دونتها واختزلتها.
مشاركة :