من الحداثة إلى ما بعد الحداثة (2)

  • 8/21/2016
  • 00:00
  • 42
  • 0
  • 0
news-picture

تمهيداً للقراءة النقدية التي أردنا أن نقوم بها للكتاب المهم الذي أصدره الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن وعنوانه «روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية» (2009) أردنا في البداية أن نشير إلى ملاحظة مهمة هي أن طه عبدالرحمن حاول في كتابه إن صح التعبير، «أسلمة المقولات الرئيسية للحداثة الغربية». غير أنه لم يلتفت إلى أن الحركة الفلسفية الغربية المعاصرة تجاوزت مقولات الحداثة الكلاسيكية بعدما وجهت إليها سهام النقد. وصاغت نظرية جديدة أطلق عليها «ما بعد الحداثة». ومن ثم آثرنا أن نعرف بالمقولات الرئيسية لهذه النظرية الجديدة قبل أن نركز على العرض المنهجي للمحاولة الفلسفية الجسورة التي قام به طه عبدالرحمن في مجال صياغة نظرية إسلامية للحداثة. وفي المقال الماضي «عن الحداثة إلى ما بعد الحداثة» (الحياة في 7 آب (أغسطس) 2016) بدأنا التعريف بالأفكار الأساسية لحركة ما بعد الحداثة ونواصل اليوم عرضنا لهذه الأفكار. ويمكن القول إن لحركة ما بعد الحداثة أفكاراً محددة وجديدة حول التاريخ والزمن والجغرافيا. في ما يتعلق بالتاريخ كعلم مستقل، أو كمدخل لعديد من العلوم الاجتماعية، فإن الحركة تريد أن تنزله من موقعه، وتقلل من أهميته، ومن كثرة الاعتماد عليه. ولا يرون له أهمية سواء في كونه شاهداً على الاستمرار، أو دليلاً على فكرة التقدم، أو وسيلة للبحث عن الجذور، أو أساساً للفهم السببي للوقائع. التاريخ بالنسبة إلى حركة ما بعد الحداثة هو مجال للأساطير والإيديولوجيات والتحيز. إن التاريخ في رأي دعاتها، اختراع للأمم الغربية الحديثة، قام بدوره في قمع شعوب العالم الثالث، والمنتمون إلى حضارات أخرى غير غربية. والتقليل من أهمية التاريخ، يرد إلى فكرة أساسية مفادها بأن الحاضر الذي نعيشه باعتباره نصاً ينبغي أن يكون هو محور اهتمامنا، هذا الحاضر الذي يتشكل من «سلسلة من الحواضر» الإدراكية المشتتة. وليس التاريخ مهماً إلا بالقدر الذي يلقي فيه الضوء على الأحوال المعاصرة. ومن ناحية أخرى فإن حركة ما بعد الحداثة لها مفهومها عن الزمن. ويرفض أصحاب الحركة أي فهم تعاقبي أو خطي Linear للزمن. وهذا الفهم للزمن يعتبرونه قمعياً، لأنه يقيس ويضبط كل نشاطات الإنسان. وهم يقدمون مفهوماً آخر للزمن يتسم بعدم الاتصال والفوضوية. ويستخدم الباحثون من أنصار ما بعد الحداثة هذه المفاهيم عن الزمن والجغرافيا، لكي يلغوا الفرق بين السياسات الداخلية والسياسات الدولية. وهم يضعون العلاقات الدولية في فترة بعد الحداثة في حدود السياسات الداخلية والدولية، في موضع يطلقون عليه «اللامكان». وهناك لحركة ما بعد الحداثة أفكار عن دور النظرية، وعن نفي ما يطلقون عليه «إرهاب الحقيقة». وهم يعتبرون السعي إلى الحقيقة كهدف أو كمثال إحدى سمات الحداثة التي يرفضونها. والحقيقة كما صورها عصر التنوير الغربي، تحيل في فهمها والوصول إليها إلى النظام والقواعد والقيم والمنطق والعقلانية والعقل، وكل هذه مقولات مرفوضة. الفكرة الجوهرية هنا أن الحقيقة يكاد يكون من المستحيل الوصول إليها، فهي إما أن تكون لا معنى لها أو تعسفية. والنتيجة واحدة، فليس هناك في الواقع فرق بين الحقيقة وأكثر الصياغات البلاغية أو الدعائية تشويهاً للحقيقة. ومن هنا ترفض الحركة أي زعم باحتكار ما يسمى «الحقيقة» لأن في ذلك إرهاباً فكرياً غير مقبول. وتريد حركة ما بعد الحداثة تقليص دور النظرية واستبدالها بحركة الحياة اليومية، والتركيز على ديناميات التفاعل في المجتمعات المحلية، تلافياً لعملية التعميمات الجارفة التي تلجأ إليها النظريات، ما يؤدي - عملياً - إلى تغييب الفروق النوعية، وإلغاء كل صور التعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية. وترفض حركة ما بعد الحداثة كل عمليات التمثيل Representation سواء أخذت شكل الإنابة Delegation بمعنى أن شخصاً يمثل الآخرين في البرلمان، أو التشابه Resemblenace حين يزعم المصور أنه يحاكي في لوحته ما يراه في الواقع. و «التمثيل» في كل صوره مسألة محورية في ميدان العلوم الاجتماعية، ومن هنا اهتمت حركة ما بعد الحداثة بنقده نقداً عنيفاً في كل صوره. ولحركة ما بعد الحداثة أفكار محددة في مجال الإﭘستمولوجيا ومناهج البحث. وتشمل هذه الأفكار عدداً من المقولات عن الحقيقة، والسببية والتنبؤ، والنسبية، والموضوعية، ودور القيم في البحث العلمي، وعن منهجية «التفكيك» ودور التأويل الحدسي، وعن مستويات الحكم ومعايير التقويم. وخلاصة ما سبق، أن لحركة ما بعد الحداثة على رغم التناقضات الفكرية الواضحة بين مختلف أجنحتها، أفكاراً محددة حول المبادئ التي تريد إرساءها في ممارسة العلم الاجتماعي، بعدما قامت بدورها في محاولة هدم المبادئ التي قام عليها مشروع الحداثة الغربي. وإذا أردنا أن نركز على أهمية الأفكار المتعددة لحركة ما بعد الحداثة لقلنا إن وجهة نظرها في ما يتعلق بالمسعى الرئيسي للحداثة الغربية الكلاسيكية وهي محاولة الوصول إلى الحقيقة بالغة الأهمية في الواقع. لأن التاريخ الغربي الحديث يتمثل أساساً في سعي الدول الغربية الكبرى لاستعمار بلاد العالم الثالث. وهذه الحركة الاستعمارية استندت إلى نظريات تبررها أهمها على الإطلاق ما يطلق عليها «عبء الرجل الأبيض» White man’s burden وهي تعني أنه تقع على عاتق الرجل الأبيض «أي الغربي» مسؤولية أخلاقية تتمثل في تمدين الشعوب البربرية ويعنون بذلك شعوب العالم الثالث. وذلك انطلاقا من «حقيقة» مزعومة مفادها بأن شعوب الغرب أسمى حضارياً من كل الشعوب الأخرى. ويمكن القول إن هذه الفكرة هي أساس العنصرية الغربية التي مارستها الحكومات الغربية بل وبعض فئات الشعوب الغربية في نظرتها «للآخر» غير الغربي. وربما كانت هذه الفكرة المحورية هي أساس ما يطلق الآن على الصراع الحضاري القائم بين الغرب والعالم الإسلامي «الإسلاموفوبيا». وتعني في أحد معانيها اتهام الدين الإسلامي هكذا على وجه التعميم، بأنه يقوم على العنف وعلى تكفير الآخر غير المسلم. وإذا كانت نزعة تكفير غير المسلم إحدى الأفكار الأساسية للجماعات الإسلامية المتطرفة التي تحولت لتصبح حركات إرهابية وفي مقدمها تنظيم «القاعدة» الذي كان يتزعمه «بن لادن» والذي شنت بعض فصائله هجوماً إرهابيا في 11 أيلول (سبتمبر) على الولايات المتحدة الأميركية ما أدى إلى تغيير العالم بحيث أصبحنا نتحدث عن «قبل أحداث سبتمبر» وبعدها في مجال الصراع الحضاري من ناحية والحروب الأميركية التي شنتها إدارة الرئيس الأميركي السابق «بوش» ضد أفغانستان والعراق، إلا أنه لا يمكن استناداً إلى هذا الحادث الإرهابي، وصم الإسلام وهو دين سماوي يقوم على أساس التسامح والحرية، بأنه يقوم على العنف. غير أن الأحداث المعاصرة وأبرزها على الإطلاق ظهور تنظيم «داعش» الذي أعلن عن خلافة إسلامية وهمية بقيادة «أبو بكر الزرقاوي» والجرائم المريعة التي يرتكبها يومياً ضد غير المسلمين من الرهائن بل وضد بعض المسلمين أيضاً أدت للأسف الشديد إلى تثبيت هذه الصورة النمطية عن الإسلام. وهناك بالإضافة إلى ذلك أفكار أخرى عدة لحركة ما بعد الحداثة تعد صائبة في نقدها لأفكار الحداثة الغربية غير أن المجال لا يتسع لنا لمناقشتها. غير أن أخطر ما في هذه الأفكار هي رفضها فكرة «التمثيل أو الإنابة» التي تقوم عليها الديموقراطية الغربية في انتخاب نواب ينوبون عن الشعب في تقرير أمور المجتمع صحيحة ولا شك. وهي التي أدت إلى إجماع علماء السياسة الغربيين الآن إلى التأكيد على أن الديموقراطية النيابية وصلت إلى منتهاها، وأننا على أبواب ديموقراطية جديدة هي ديموقراطية المشاركة Participatory Democracy.     * كاتب مصري

مشاركة :