كتب مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب في كتابه "كوفيد-19: إعادة الضبط العظمى": "من الممكن أن تكون التحديات الوشيكة أكثر أهمية مما اخترنا تخيله حتى الآن، بيد أن قدرتنا على إعادة الضبط قد تكون أكبر مما كنا نأمله سابقا". وقد أصبحت هذه الملاحظة في أكثر الكتب مبيعا التي أنتجت في ظل الجائحة ثاقبة على نحو خاص مع تجمع قادة العالم في حدث افتراضي للمنتدى الاقتصادي العالمي اليوم (الاثنين) لمناقشة حالة العالم: تغييرات كبيرة يجب إجرائها لمواجهة التحديات المشتركة في حقبة ما بعد الجائحة. وينبغي أن يكون في صميم التغييرات نوع مطور من العولمة، عولمة أذكى، تتميز باستخدام أفضل للتكنولوجيات الجديدة وحوكمة عالمية أكثر حكمة، لإخراج العالم من كآبة الوباء. إن العولمة، وهي عملية طبيعية مدفوعة بالإنجازات التكنولوجية، والتدفقات الحرة للناس ورأس المال المتعطش للربح، لن تتراجع أو تلغيها أزمة عالمية واحدة -- كما لم يحدث في الأزمة المالية العالمية في عام 2008، أو "تسونامي" اليابان في عام 2011، أو انسداد قناة السويس في 2021، وبالتأكيد لن يحدث ذلك جراء كوفيد-19. ففي نهاية الأمر، جعل التعقيد المترابط المجتمع أكبر من مجموع أجزائه. ولكن العولمة يمكن أن تعمل بالتأكيد على نحو أفضل لمصلحة الجميع في المستقبل. فبادئ ذي بدء، من المهم تحقيق عولمة أكثر تقدما من أجل تحقيق انتعاش فعال ومستدام في مرحلة ما بعد الجائحة. وأشار تقرير المخاطر العالمية لعام 2022 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي الأسبوع الماضي إلى أنه من المتوقع أن يكون الاقتصاد العالمي أصغر بنسبة 2.3 في المائة بحلول عام 2024 مما كان يمكن أن يكون عليه بدون الوباء. ولإنعاش المناطق المهمشة اقتصاديا بأسرع وقت ممكن، لا بد من ضخ زخم إنمائي جديد في الاقتصاد العالمي، وذلك بالاستفادة من المزيد من الفرص في القطاعين الرقمي والأخضر. لقد وفرت سرعة الابتكار أرضية خصبة للارتقاء المستمر بالعولمة. على سبيل المثال، يمكن لتكنولوجيات المعلومات مثل سلسلة الكتل والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي والروبوتات، وجميع منتجات الثورة الصناعية الرابعة، أن تساعد في تحفيز الإنتاجية والكفاءة وتقديم الخدمات، وتجديد أوضاع الأعمال المحلية وحتى نظام سلسلة الإمداد العالمي الأكبر. وإلى جانب تشجيع المشاريع الصديقة للبيئة في جميع أنحاء العالم مثل إدارة المياه، وضبط النفايات، والطاقة المتجددة، والسياحة المستدامة، ينبغي للحكومات أيضا أن تنسق فيما بينها لتوجيه الاستثمار العام والخاص عبر البلدان نحو الانتعاش الأخضر وتحرير التجارة في السلع والخدمات البيئية. ثانيا، عولمة أكثر توازنا أمر بالغ الأهمية لانتعاش مرن. ومن الدروس المستفادة من الجائحة وضررها على شبكة سلسلة الإمداد العالمية أن عملية العولمة قد مالت نحو تعظيم الفرص دون إيلاء اهتمام يذكر لتقليل المخاطر إلى أدنى حد ممكن. ومن أجل تحسين تصميم شبكة سلسلة الإمداد إلى أقصى حد بغية تحقيق انتعاش أقوى لقدرة العرض، يتعين على البلدان أن تتكاتف لتعزيز الوعي بإدارة المخاطر، وذلك مثلا بإضافة حالات تكرار إلى عمليات التصنيع العالمية، وتحقيق لامركزية في سلاسل الإمداد من حيث الثقل والمكانة، والرصد التعاوني للصحة المالية والتشغيلية بين الموردين. وكما أشارت دراسة بعنوان "سلاسل التوريد العالمية خلال الجائحة"، فإن "إعادة توطين" سلاسل التوريد العالمية لا تجعل البلدان بشكل عام أكثر قدرة على التكيف مع التقلبات الناجمة عن الجائحة في المعروض من العمالة، بل إنها تفضل أن تجعل المتوسط العالمي لانخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بسبب صدمة الجائحة أكبر. لا ينبغي أن تكون العولمة مجرد تبادل للسلع والخدمات فقط، بل ينبغي أن تشمل الأفكار أيضا. ومن المحزن أن الأمر لم يكن كذلك. ومن الطاقة ورقاقات إلى أشجار عيد الميلاد، تكشف أزمة سلسلة الإمداد المستمرة في جميع أنحاء العالم، والتي كانت ناجمة جزئيا عن توقعات أعضاء سلسلة الإمداد، كل على حدة ودون الكثير من التنسيق مع شركائهم في المراحل الابتدائية والنهائية، عن بؤس "تأثير السوط". وللتخفيف من وقع تكلفة ومخاطر عدم المعرفة وتحسين دقة المشتريات والإنتاج والتوزيع، من الضروري تعزيز تبادل المعلومات في حينه وبناء علاقات أقوى بين أعضاء سلسلة الإمداد، وكذلك فيما بينهم وبين المستخدمين النهائيين. ثالثا، عولمة أكثر شمولا هي مفتاح الانتعاش الشامل. وقد كشف الوباء المستعر أن العولمة في السنوات الماضية لم تتحول إلى مد صاعد يرفع جميع القوارب. وفي حين أنه من المتوقع أن تتجاوز الاقتصادات المتقدمة نموها قبل الوباء بنسبة 0.9 في المائة بحلول عام 2024، فإن معظم البلدان النامية ستكون أقل منه بنسبة 5.5 في المائة، حسبما أظهر تقرير المخاطر العالمية لعام 2022. وأشار البنك المركزي الأوروبي في تحليل إلى أنه على خلفية الحمائية المتزايدة، تم تنفيذ أكثر من 1900 إجراء تجاري تقييدي جديد في جميع أنحاء العالم في عام 2020، بزيادة 600 عن متوسط العامين السابقين. وفي وقت تشتد فيه الحاجة إلى التضامن والتعاون العالميين لتضميد جراح الوباء، فإن مسارات التعافي المتباينة في مختلف البلدان سوف تؤدي إلى أولويات وسياسات متفاوتة، وتهدد في نهاية المطاف الرخاء المشترك على المدى الطويل. ولذلك، ومن الأهمية بمكان، لمصلحة الجميع، سد الفجوات في الثروة والصحة، وزيادة مشاركة البلدان الأكثر فقرا في عملية العولمة. وتحقيقا لهذه الغاية، يتعين على صناع القرار في جميع أنحاء العالم أن يعملوا معا بهدف تنفيذ معونة دولية جديدة موجهة نحو البلدان الضعيفة بشكل أسرع وتصميمها لمساعدتهم على التحول من مجالات ذات قيمة منخفضة إلى أخرى ذات قيمة مضافة أعلى، وإصلاح الهياكل غير المتكافئة للتجارة والتمويل والضرائب عن طريق إعادة هيكلة أعباء الديون، وإعادة استخدام حقوق السحب الخاصة غير المستخدمة، وخفض تكاليف الاقتراض، وتوفير التمويل الكافي للمناخ، ووضع قواعد للتفاعلات العالمية على أساس المصالح المشتركة للجميع. وقالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد في أواخر عام 2021 إن "عالما معولما يمر بمرحلة انتقالية - والوباء لم يقم حتى الآن سوى بتعزيز هذه الرسالة". وما يحتاجه المجتمع العالمي الآن هو تجميع الجهود والحكمة لتوجيه العالم نحو مستقبل أفضل بعولمة أكثر ذكاء.■
مشاركة :