لقاء قيس سعيد بالطبوبي.. فرصة الاتحاد لتغيير نفسه إذا كانت الاتحادات النقابية في العالم لا تضع ميزانيات الدول فلماذا يريد اتحاد الشغل في تونس أن يكون الاستثناء. هل هو فعلا قلق على ميزانية الرواتب أم على حصته من اشتراكات المنتسبين إليه؟ خطاب التصعيد ليس هو الخطاب الوحيد يوفر اللقاء الذي جمع الرئيس قيس سعيد بأمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي السبت فرصة جديدة للمنظمة النقابية الأكبر في البلاد لمراجعة وضعها الحالي والتخلي عن مقاربتها التي تعمل من خلالها على الخروج من دائرة الشريك الاجتماعي الذي يتفاوض حول تحسين أوضاع العمال إلى دائرة الشراكة في الحكم، وما تعنيه من تحديد خارطة للطريق تسير عليها الدولة وضبط الموازنة السنوية حسب مصالحه. خلال السنوات الماضية كان الاتحاد يتصرف وفق الشعار الذي يردده أنصاره “الاتحاد أقوى قوة في البلاد”، وكان يفرض شروطه على الحكومات الضعيفة التي كان همها الاستمرار في السلطة، ولذلك كانت تقبل خلال مفاوضات غير متكافئة بإقرار زيادات الرواتب للقطاع الحكومي، وتستشير الاتحاد في تفاصيل إدارة أغلب الملفات ذات البعد الاجتماعي، وتضع على ذمته كوتا في الوظائف الكبرى على رأس المؤسسات الحكومية. وكانت تلك الحكومات الضعيفة تتهرب من أيّ إصلاحات اقتصادية سواء أكانت لجان حكومية متخصصة في الإصلاحات هي من أقرتها، أم أنها تأتي ضمن مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي يتمسك بتنفيذ حزمة من الإصلاحات قبل ضخ الأموال التي تساعد البلاد على الخروج من أزمتها الاقتصادية. والسبب الرئيس لهذا التهرب هو تجنب الصدام مع اتحاد الشغل وقيادته التي كانت تمر مباشرة إلى الإضرابات لمنع أيّ مساس بمكاسب الموظفين والعمال المنخرطين فيه، وخاصة في المؤسسات الكبرى بالرغم من التقارير الحكومية التي كانت تكشف حالة واسعة من الفساد داخل تلك المؤسسات. ويكتفي الاتحاد بمطالبة الدولة بضخ المزيد من الأموال لإنقاذ تلك المؤسسات دون القبول بالإصلاحات الضرورية لإنقاذها، ما يجعل البلاد تدور سنويا في حلقة مفرغة وتراكم الديون على نفسها. منذ إجراءات الخامس والعشرين من يونيو 2021 تغيرت الأوضاع تماما، وبات الرئيس قيس سعيد يعتمد مقاربة مختلفة تقوم على مشاركة يعرف فيها كل طرف حدود تحركه التي يفرضها القانون وتقاليد تونس في العمل السياسي والاجتماعي. ولأجل ذلك رفض قيس سعيد ما أسماه الاتحاد بخارطة الطريق لإخراج البلاد من أزمتها، وهي خارطة كان الهدف منها الحفاظ على دور الاتحاد كلاعب مهم في اللعبة بما يضعه في مرتبة الوصيّ على الدولة، وهي مرتبة لم تظهر سوى بعد 2011 زمن الدولة الضعيفة والأحزاب التي لا تمتلك خبرات ولا برامج وكان همها البقاء في السلطة. لم يعر قيس سعيد أهمية لهمهمات الاتحاد التي تسمع هنا وهناك بشأن الشراكة ودعوات الحوار الوطني واستمر في إدارة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ولو بالحد الأدنى لمنع انهيار البلاد بسبب السياسات الفاشلة التي اعتمدت في السابق، وخاصة صراعات الهيمنة على الدولة واستراتيجيات التمكين المختلفة، الظاهرة والباطنة. كان كلام الطبوبي واضحا بعد لقائه بالرئيس قيس سعيد، فقد قال إنه “تم التأكيد خلال اللقاء على أن بناء المرحلة الصعبة لا يكون بالفعل وردّ الفعل بل بتضامن وطني حقيقي”، وهي إشارة واضحة على أن الاتحاد يجب أن يغيّر أسلوبه القائم على المناورة والتصعيد مع كل قرار يعلن عنه الرئيس قيس سعيد أو حكومة نجلاء بودن وفي ظل تركيز الرئيس قيس سعيد خلال الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية على مواجهة الحملة السياسية التي تقودها حركة النهضة وبعض الأحزاب الصغيرة والشخصيات الباحثة عن استعادة فرص فقدتها بفعل مسار الخامس والعشرين من يوليو، أرسل الاتحاد إشارات على أنه يمكن أن ينضم إلى المعارضة ولو من بوابة كتلة خاصة لا تتقاطع ظاهريا مع حركة النهضة سماها “الطريق الثالث” في محاولة للي ذراع قيس سعيد. واستمر الاتحاد بالضغط بإعلان معارضته لموازنة 2022 التي أقرها الرئيس قيس سعيد، والتي تضمنت ضمن إجراءاتها لإنقاذ الوضع خطوات من بينها خفض الرواتب، وهي النقطة التي يعارضها قادة الاتحاد بشدة. وهو ما يطرح سؤالا حول سر هذه المعارضة. وقال الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي إن أيّ مسعي حكومي لخفض الرواتب لن يسكت عنه الاتحاد. وأشار في خطاب له خلال ديسمبر الماضي إلى أن “اتحاد الشغل لن يخون الوطن ولن يخون العمال بعد ما طلبت الحكومة تجميد الأجور لمدة 5 سنوات”، وأنهم “لو أرادوها معركة تقدم وازدهار وبناء سيكون الاتحاد في المقدمة وإذا أرادوها معركة كسر عظام نحن جاهزون لها ولا خيار آخر لنا”. وفي خطاب ثان، قال الاتحاد في بيان ثان إن “هناك قرارات اقتصادية ومالية أحادية وغيابا للإرادة بتغيير حقيقي في ميزانية البلاد للسنة الحالية”. وأضاف أن هناك “نزعة تفرّد في أغلب القرارات المصيرية، ومنها التفاوض مع الدوائر المالية العالمية، فضلا عن نزعة متنامية من العداء للعمل النقابي ووضع العراقيل أمامه”. وإذا كانت الاتحادات النقابية في العالم كله لا تضع ميزانيات الدول، فلماذا يريد اتحاد الشغل في تونس أن يكون الاستثناء، هل هو فعلا قلق على ميزانية الرواتب في الدولة أم على حصته من اشتراكات المنتسبين إليه؟ وهذا السؤال مهم لأنه يمكن أن يفسر دفاع الاتحاد عن البقاء في مربع المرحلة الماضية، فقد منحته الضغوط، التي نجح من خلالها في فرض زيادة الرواتب في بلد يعيش أزمات حادة، فرصة التحول إلى فاعل محوري وزادت من تعلق النقابات بقيادة الاتحاد، التي نجحت في هذه الظروف في تمرير الفصل 20 المثير للخلافات، والذي يسمح بالتخلص من عبء الشرط الداخلي الذي يمنع من قضّى دورتين في المكتب التنفيذي من فرص دورة ثالثة. إن اللقاء الذي جمع الرئيس قيس سعيد بالطبوبي يمكن أن يوفر فرصة مصالحة الاتحاد مع رئيس الجمهورية ومع الحكومة ومع نفسه أيضا، من خلال العودة إلى لعب دور الشريك الاجتماعي الذي يتفاوض مع الحكومة ضمن شركاء آخرين لتحسين الوضع الاجتماعي للعمال والموظفين في القطاعين العام والخاص. ومثّل اللقاء كذلك فرصة ليعرف المتابعون أن خطاب الاتحاد الذي يلوّح فيه بالتصعيد ورفض تجميد الرواتب، والإيحاء بوضع قدم مع المعارضة السائرة في ركاب حركة النهضة، ليس هو الخطاب الوحيد، فهناك خطاب آخر في السر يحرص فيه الاتحاد على التواصل مع السلطة وطلب ودها، ما يظهر أن حاجة المنظمة في البقاء إلى جانب الرئيس قيس سعيد والحكومة أكبر من نزعة بعض قيادييها إلى التصعيد وافتعال الأزمات. كان كلام الطبوبي واضحا بعد لقائه بالرئيس قيس سعيد، فقد قال إنه “تم التأكيد خلال اللقاء على أن بناء المرحلة الصعبة لا يكون بالفعل وردّ الفعل بل بتضامن وطني حقيقي”، وهي إشارة واضحة على أن الاتحاد يجب أن يغيّر أسلوبه القائم على المناورة والتصعيد مع كل قرار يعلن عنه الرئيس قيس سعيد أو حكومة نجلاء بودن. وهذه أرضية مهمة في فهم الشراكة التي تعطي لكل طرف حجمه وألاّ يلعب الاتحاد دور الدولة بأن يحدد لها خارطة طريق ويضبط الميزانية على مقاس مصالحه ويرفض إصلاحات صندوق النقد الدولي لأنها يمكن أن تقود إلى تقليص عائدات الاتحاد التي تحولها له الدولة وتفرض عليه التقشف. كما أن تلك الإصلاحات لا تتواءم مع أحلام قديمة لبعض قيادات المنظمة النقابية، التي تنظر إلى الصندوق من بوابة الشعارات الأيديولوجية الكبرى. مختار الدبابي كاتب وصحافي تونسي
مشاركة :