أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن عبدالعزيز السديس المسلمين بتقوى الله في السر والعلن وفي الخلوة والجلوة، فهي وصية للأولين والآخرين. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: لَيْس يَخْفَى على أولي النُّهى والألباب أنَّ شريعتنا الإسلامِيَّة الغرَّاء تنظم مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد، وإن المقصد العام من التشريع هو: حفظ نظام الأمة واستدامة صلاح المجتمع باستدامة صلاح المهيمن عليه وهو الإنسان، وإن هناك صنفين عظيمين، وفئتين مُهِمَّتين، هما صمام أمنه وطوق نجاته: العلماء حُراس الشريعة، وحماة الأمن حراس الثغور. وأضاف: يقول العلماء يقومون برسالتهم التي تشمل: صلاح الإنسان، وصلاح عَقْله، وصلاح عَمَله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه. وهذا الأمر لا يتحقق إلا بميزان الشَّرْع لا بأهواء النُّفُوس، فلا يقومُ عليه إلا أهْلَ العِلمِ المُخْلِصِين، والعلماء الرَّبَّانيين، ذَوِي العَقْلِيَّات الفَذَّة، والمَلَكَات الاجتهادية، الذين يُحْكِمُونَ الأُصولَ والقواعد، ويَزِنُونَ الأمُورَ بميزان الشَّرْعِ الحنيف، فالعلماءُ هُم أئمة الأنَام، وزَوَامِلُ الإسلام، وحُراسُ الدِّين، وحماته من الابتداع والتَّحريف، وهم أولياء الله الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ الله، فهم عِصْمَةٌ للأمَّةِ من الضَّلال، وهم سفينةُ نُوح، مَن تَخَلَّفَ عنها لاسيما في زمان الفتن، كان من المُغْرَقِين. فوجودهم في الناس صِمَام أمَان، ولكن بعض الناس في عمى عن مكانتهم غمزًا، وهمزًا، ولمزًا، فما أحسن أثرهم على الناس , وما أقبح أثر الناس عليهم كما قال الإمام أحمد، وموت بعض أهل العلم أو أحدهم ثُلْمَةٌ في الإسلام لا يَسُدُّها شيءٌ ما اختلف الليل والنهار. وقال “السديس”: أعظم أنواع الفقد على النفوس وقعًا، وأشدّه على الأمة لوعة وأثراً؛ فقدُ العلماء الربانيين والأئمةِ المصلحين؛ فهم ورثة الأنبياء وخلفاءُ الرسل، والأمناءُ على ميراث النبوة، وهم للناس شموسٌ ساطعة، وكواكب لامعة، وللأمة مصابيح دُجاها، وأنوار هُداها، بهم حُفظ الدين، وبه حُفِظوا، وبهم رُفعت منارات الملّة، وبها رُفِعوا ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات﴾، صحّ عند الإمام أحمد وغيره من حديث أنس أن رسول الله قال: “إنما مَثَلُ العُلَمَاء كَمَثَلِ النُّجُوم يُهْتَدَى بها في ظُلُمَاتِ البَّرِّ والبَحر، فإذا انْطَمَسَتْ النجوم أوشك أن تَضِلَّ الهداة”، وحسبنا في بيان فداحة هذا الخطب وعظيم مِقْدَار هذه النازلة قولُ المصطفى : “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوسًا جُهالاً، فَسُئِلُوا، فأفتوا بغير علم فَضَلُّوا وأضَلُّوا” (متفق عليه)، وقال عبد الله بن مسعود : “عليكم بالعلم قبل أن يُقبض ؛ وقبضه ذَهَابُ أهله”، وعن علـي بن أبي طالب أنه قال: “إذا مات العالم ثُلِم في الإسلام ثُلْمَةً لا يَسُدُّهَا إلا خَلَفٌ منه” (أخرجه: البيهقي في شعب الإيمان). فموت العالم ليس موت شخص واحد، ولكنه بنيان قوم يُتهدم، وحضارة أمة تتهاوى. وأردف: من عظيم فجائع هذا الزمان؛ تَحَاتّ أوراق العلماء، وموت القامات العلمية والقضائية الكبرى في الأمة، وواجب المسلمين معرفة عظيم قدرهم، والإفادة منهم وذكرهم بالجميل، والدعاء لهم أحياء وأمواتًا، والحمد لله على قضائه وقدره، وإنا لله وإنا إليه راجعون، واللهم أَجِرْنَا في فقدهم، وعَوِّض الأمة بفقدهم خيرا بعظيم الخلف المبارك، ولا يأس ولا قنوط، فالخير باقٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة. وأوضح خطيب الحرم المكي أن الإيمان والأمن متلازمان، وحُرَّاسهما صِنْوَان أصلهما ثابت وفرعهما في السماء: حُراس الشريعة، وحُمَاة الثغور، لا حياة إلا بهما، ولا يستغني عنهما أحدٌ من الناس مادامت في الصدور أنفاس. ومنذ أن أشرقت شمس هذه الشريعة الغراء ظللت الكون بأمن وَارِفْ، وأمان سابغ المعاطف، ولقد كان الأمن أول دعوة دعا بها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حيث قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾، فَقَدَّم الأمن على الرزق، بل جعله قرين التوحيد في دعائه فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جَارُهُ بَوَائِقَهُ” (متفق عليه)، فهنيئًا للمرابطين ويا بشراهم، وعن ابن عباس {قال: سمعت رسول الله ج يقول: “عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله” (أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن). وتابع “السديس”: يقول روى البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رِبَاطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، ومَوْضع سَوْطِ أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والرَّوْحَة يَرُوحُهَا العبد في سبيل الله أو الغَدْوَة خير من الدنيا وما عليها”، وصح عنه أنه قال: “رباطُ يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإنْ مَاتَ جرى عليه عمله الذي كان يعمله” (رواه مسلم)، والميت يُخْتَم له على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإن الله تعالى يُنْمِي له عمله إلى يوم القيامة، قال: “كل ميت يُخْتَم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله ؛ فإنه يُنْمَى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر” (أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح)، قال الإمام القرطبي: “وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت ، فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به، والولد الصالح الذي يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهاب العلم وموت الولد. والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة، لأنه لا معنى للنماء إلا المضاعفة، وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضل دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة. وهذا لأن أعمال البر كلها لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام. وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة”، الله أكبر. وقال: إنَّنَا لَنَفخر أعظم الفَخْرِ بأبطالنا رجال الأمن البواسل وحُرَّاس الثغور الأشاوس، وكُمَاة المَتَارِس، جنودنا المرابطين، وحُمَاة العَرِين، وأُبَاة العِرْنِين، ونوجه لهم من منبر المسجد الحرام تحيَّة شَذِيَّة، مُحَبَّرة مُضَوّعة مُعَطَّرَة نَدية، على نَصَاعة البطولات، والسِّجل الحافل من الانتصارات، تحيَّة إجْلالٍ واعتزاز، وثناء وافتخارٍ بامتياز، سهرتم فَنِمْنَا، وذُتُّم فأمِنَّا، في استبسال وشجاعة خُضْتم المعامع، فوجب علينا الدعاء لكم بفيض المدامع أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. وأضاف: من أعظم النِّعم والآلاء علينا؛ نعمة الأمن والأمان؛ فبلادُنا آمنة مرغُوسة، وفي تُخوم الأمانِ مغروسة، وهي بحفظ الله محفوظة، ومن الأعادي مصونةٌ محروسة، وستظلُّ ثابتةً منصورة بفضل الله أولا ثم بفضل أبطالنا الأشاوس، وجنودنا البواسل، ونسور دفاعنا الجوي، وصقور قواتنا المسلحة، وسائر القطاعات العسكرية، بالتعاون مع قوات التحالف المشتركة الذين أثبتوا قولا وعملا ؛ الكفاءة العالية، والجاهزية المثالية، والترقب، والتحفز، واليقظة، في اعتراض وتدمير الصواريخ المعادية ، والذود عن الوطن والمواطنين وحماية المقدسات، والحفاظ على المكتسبات، والمقدرات والمنشآت المدنية في تأكيد للعمل الأمني المشترك، صدًا لعدوان البغاة الإرهابيين وجرائمهم ضد المنطقة، ودَرْءًا للخطر الداهم الإقليمي والدولي، وغدا بشائر النصر التي تلوح ﴿َيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ~ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. وأكد أهمية التقيد بالإجراءات الاحترازية، والتدابير الوقائية، والاشتراطات الصحية، حرصًا على صحتكم، وسلامة أُسَرِكُم وأبنائكم، لاسيما مع انتشار الموجات المتجددة والسلالات المتحورة من هذه الجائحة الكورونية مما يتطلب الحذر والجدية في تطبيق الاحترازات، خاصة التباعد الجسدي، ولبس الكمامات، وعدم التجمعات، والسعي في الحصول على اللقاحات والجرعات المُعَزِزَة، فمناعتنا حياة، لاسيما مع العودة الحضورية الموفقة للمدارس، مما يتطلب التهيئة النفسية، وإيجاد بيئة صحية آمنة.
مشاركة :