أمير العمري* عُرف المخرج البريطاني داني بويل بأفلامه المليئة بالحيوية والحركة، والتي تتمتع بأسلوب سينمائي جذاب يعتمد على الصورة والحركة والدراما الساخنة، والشخصيات المتعددة، والمونتاج، ووجود شريط صوت ممتع في الوقت نفسه. وقد تجلى ذلك في أفلام مثل مقبرة سطحية (1994) ورصد القطارات (1996) ومليونير العشوائيات (2008) و127 ساعة (2010). أما فيلمه الأحدث ستيف جوبز (2015) (Steve Jobs) الذي اختتم به مهرجان لندن السينمائي، فيبدو من خلاله أن بويل قرر السباحة خارج المياه التي يعرفها جيدا، فقد قبل تحديا فرضه عليه سيناريو أرون سوركين، الذي يلتقط ثلاثة مواقف بارزة في حياة ستيف جوبز، الشخصية اللامعة مؤسس شركة آبل، والذي لعب دورا كبيرا في تطوير منتجاتها من أجهزة الحاسوب، لا لأنه كان يعرف بناء أو تصميم أجهزة الحاسوب، ولكن لأنه كان يعرف ما هي الأجهزة التي يريد لشركته أن تنتجها بالضبط، وماذا يريد من ورائها، وكيف يصل لمستخدميها في السوق. شخصية ستيف يركز الفيلم على شخصية جوبز من خلال ثلاثة مواقف، هي: ما قبل إطلاق جهاز آبل 2 في 1984، وما وقع بعد أن وجد جوبز نفسه مطرودا من الشركة لكي يؤسس شركة أخرى ويعلن عن الاستعداد لإطلاق جهاز جديد باسم نيكست عام 1988، ثم يعود بشروطه منتصرا إلى شركة آبل، لكي يطلق في النهاية التطوير الثوري الجديد لأجهزة الحاسوب المنزلي الذي تمثل في عام 1998 في جهاز آي ماك؛ أي إن الفيلم لا يطمح إلى أن يكون فيلما عن حياة ستيف جوبز بقدر ما هو دراسة لشخصيته ترتبط بمواقف محددة. يتجاهل الفيلم مثلا الإشارة إلى أن الأب الحقيقي لجوبز عبد الفتاح جندلي، عربي مسلم من سورية، وهو الآن في الثمانين من عمره. ولعل هذا الاختيار أفقد الفيلم الكثير من الزوايا الأخرى التي كان يمكن من خلالها سبر أغوار شخصية رجل مهووس بفكرة النجاح، مهما كان الثمن، حتى لو كان يجعل الآخرين من حوله -أي المصممين والمهندسين المتخصصين في تكنولوجيا الحاسوب- مجرد مجموعة من الكومبارس، يرفض أن يمنحهم ما يستحقونه من اعتبار وتقدير، ويريد أن يحتكر لنفسه البطولة وينسب لنفسه النجاح، واصفا نفسه بأنه المايسترو الذي يقود فرقة. مهووس بالعمل وفي محاولة لجعل الشخصية الرئيسية في السيناريو شخصية من لحم ودم، يشعر بها المشاهدون ويتفاعلون معها، يربط الفيلم بين جوبز في عمله وفي حياته الشخصية، فيصوره متمردا على حياته الخاصة، موليا اهتمامه الأكبر لعمله، يسعى لتحقيق طموحه، بل كثيرا ما نراه أيضا وحشا شريرا يتنكر لابنته ويرفض الاعتراف بها، واصفا أمها التي كانت عشيقته في الماضي بأبشع الصفات في مقابلاته التلفزيونية مباشرة. جوبز لا يبدأ في الاقتراب من الطفلة التي تؤكد له أمها أنه والدها الحقيقي، بينما يشك هو في أنها تحتال بهذه الطريقة للحصول على أكبر قدر من المال يمكنها انتزاعه منه، إلا بعد أن يلمح لدى الفتاة نزوعا إلى فهم لغة الحاسوب رغم حداثة سنها، أي فقط بعد أن يرى ملمحا يقربها من شخصيته ومن اهتماماته، فيبدأ تدريجيا في الاقتراب منها ومحاولة فهمها دون أن يكف عن إبداء النفور من أمها التي يرى أنها تنفق بغير حساب أو تعقّل كل ما تحصل عليه منه من مال، ثم تعود لطلب المزيد. هناك الكثير من التكرار في التأكيد على فكرة الشعور بـالألوهية عند ستيف جوبز، أو بكونه شخصا ملهما، يملك موهبة التسويق والدعاية وتقديم المنتج الجديد أمام آلاف الحاضرين كما لو كان ساحرا أكثر منه رجل أعمال. وهناك أيضا كثير من المبالغات في تصوير تطرفه في التعامل مع ابنته وعدم اعترافه بها ورفضه بفظاظة مساعدة والدتها التي كانت عشيقته في الماضي دون سبب واضح. كما يمتلئ الفيلم بالكثير من التفاصيل التي تتعلق بعالم الحاسوب دون أن تعني الكثير لدى المشاهدين غير المطلعين على تاريخ تطور أجهزة آبل، وتبدو الأجهزة التي يتوقف أمامها الفيلم عتيقة، تنتمي للماضي وتبدو مضحكة اليوم أمام ما وصلت إليه تكنولوجيا هذه الصناعة. مواقف مؤثرة ومن ضمن جوانب الضعف في الفيلم المشاهد التي يظهر فيها ستيف جوبز وهو يستعد لإزاحة الستار والكشف أمام حشد من الشباب المتلهف الذي يجلس داخل المسرح الكبير أمام شاشة عملاقة عليها علامة الشركة المميزة، وكأننا أمام فيلم من أفلام الدعاية التجارية. هناك بالطبع الكثير من المواقف المؤثرة التي يصورها داني بويل ببراعة، خاصة تلك التي تدور بين ستيف جوبز والمهندس ستيف وزنياك (يقوم بدوره سيث روغن) الذي صمم جهاز آبل 2 خلال تلك المواجهة بينهما داخل المسرح أمام فريق وزنياك، عندما يطالبه الأخير بضرورة الاعتراف بدوره وبدور فريقه من المصممين الذي كانوا وراء هذا الإنجاز الذي اعتبر في زمنه (عام 1984) قفزة كبيرة إلى الأمام في مجال أجهزة الحاسوب الشخصي. وهناك تصوير جيد لعلاقة جوبز بمساعدته، مديرة التسويق في الشركة جوانا هوفمان (تقوم بالدور كيت ونسليت) التي ترتبط معه أيضا بصداقة عميقة، وتبدو الوحيدة التي تفهمه وتفهم تطرفه الناتج عن إخلاصه الشديد لعمله ورغبته في بلوغ الكمال مثل أي فنان مبدع، رغم أنه أساسا رجل أعمال. وجوانا هي التي يمكنها أيضا أن تواجهه وتقوم بدفعه إلى مواجهة نفسه وتقويم علاقته بابنته، وهو يستجيب لها بتأثير شخصيتها القوية وإخلاصها ويقينه من كونها لا تسعى لانتزاع الأضواء منه، على حين يتشكك في الآخرين من حوله، بل إن دافعها الصدق والإخلاص له، وهي التي ظلت إلى جانبه حتى النهاية. تصاعد المشاعر ورغم المشاعر التي تتصاعد لتصل أحيانا إلى ذروة الميلودراما، خاصة في علاقة جوبز بابنته قرب نهاية الفيلم، فإن الفيلم يعاني من الحوارات الكثيرة والطويلة التي لا تكاد تتوقف. ويعاني الفيلم أيضا من الاعتماد على التصوير داخل المكاتب والقاعات والأماكن المغلقة بوجه عام، مما يجعل مهمة داني بويل ومدير تصويره الألماني ألوين كوشلر، صعبة، ويدفعهما للتحايل عن طريق الإفراط في الانتقال بالقطع بين اللقطات القريبة جدا والقريبة والمتوسطة لوجه جوبز، والتنويع المستمر في الزوايا داخل المشهد الواحد، بحيث يظهر ستيف جوبز أحيانا شخصية مهيمنة، وأحيانا أخرى شخصية معتلة المزاج، تعاني من جنون العظمة. ويلجأ بويل إلى استخدام الكاميرا المتحركة (ستيديكام) التي تتابع الشخصيات داخل ممرات طويلة ضيقة، للتغلب على محدودية المكان من ناحية، وللإيحاء بحدة التوتر الذي يحيط بعمل هذا الرجل الذي يعتبر نفسه المؤسس الحقيقي لعالم الحاسوب الشخصي. الأداء التمثيلي ورغم ما بذله داني بويل من جهد، فإن هذا ليس أحد أفلامه المتميزة بل يعتبر أقلها سينمائية، وهو يبقى أساسا فيلم أداء تمثلي، ففيه يبلغ أداء الممثل الإيرلندي الصاعد بقوة مايكل فاسبندر ذروة التحكم في التعبير عن المشاعر المتضاربة، والانتقال من الخاص إلى العام، ومن القوة إلى نوع من الضعف الكامن الذي تشي به ملامحه دون أن يفصح الحوار عنه، بل يظل متشبثا بموقفه رغم ذلك. وهو يصعد بالدور إلى ذروة في التمثيل تجعل الشخصية التي يؤديها كثيرا ما تبدو وكأنها مدفوعة بفعل قوى شيطانية غامضة نحو مصيرها مهما كان الأمر. ويتمتع فاسبندر بقوة خاصة في المشاهد التي تدور بينه وبين الممثل جيف دانييلز الذي يقوم بدور جون سكوللي المدير التنفيذي لشركة آبل، الذي كان يتمتع بصداقة مشوبة بإعجاب كبير مع ستيف جوبز ورغم ذلك عارضه واختلف معه بشدة عندما أراد سكوللي تسويق آبل لدى مستخدمي أجهزة آي بي أم، بينما عارضه جوبز كثيرا، مما أدى إلى قيام سكوللي بطرد جوبز من الشركة. لكن سكوللي سيجد نفسه فيما بعد مطرودا هو نفسه بعد أن تسببت سياسته في إدارة الشركة إلى توريطها في ديون تجاوزت الملياري دولار، ثم أعادت الشركة جوبز ومنحته نفوذا أكبر في تحديد كيفية التعامل مع الأسواق بالنسبة للمنتجات الجديدة. تميزت أيضا في هذا الفيلم الممثلة البريطانية كيت ونسليت في دور جوانا التي كان من الصعب التعرف عليها بسبب تقمصها الكبير للدور، بشعرها الأسود القصير ونظاراتها السميكة وملابسها التقليدية العتيقة في النصف الأول من الفيلم، قبل أن تتغير في الشكل والملبس في نصفه الثاني، وإن ظلت محتفظة بنفس اللهجة الأجنبية الأصل، والقدرة على كتم المشاعر، واللهاث المستمر وراء جوبز، لتذكيره بما ينتظره من مهام. في الوقت نفسه، نلمح شبح اهتمام شخصي من جانب جوانا بجوبز، يصل قرب النهاية إلى درجة البوح ولكن من دون أن يتطور الأمر بينهما، فجوبز يبدو هنا أكثر اهتماما بالآلة، بعالم البيزنس منه بأي مشاعر أو اهتمامات أخرى تحرفه بعيدا عن رسالته السامية في تغيير العالم! _______________ * كاتب وناقد سينمائي
مشاركة :