د. سعيد بن سليمان العيسائي ** ** كاتب وأكاديمي أكملت الدراسة الثانوية بمعدل 98%، وتقدمت بأوراقي للبعثات واخترت تخصص اللغة العربية في بعض الجامعات السعودية ولا أذكر أنني اخترت دولة أخرى. وكانت هذه النسبة تؤهل خريجي الثانوية للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية لأنَّ أعلى النسب كانت من نصيب هذه الدولة. انتظرت إعلان النتائج في الصحف المحلية التي كانت تعلن النتائج في تلك الأيام ولم يظهر اسمي في أية دولة من الدول التي تٌرسل السلطنة إليها البعثات . وعدما راجعت دائرة البعثات اتضح أنَّ مدير البعثات وضع الأوراق في درج مكتبه ولم يُرسلها للملحق الثقافي في جدة لأنه استغرب من رغبتي في الدراسة بالسعودية، وأنا حاصل على هذه النسبة الكبيرة في حين أنَّ مجاميع ونسب أقل من نسبتي ذهب أصحابها إلى أمريكا. أزعجني هذا الموضوع فقابلت مدير إدارة التربية والتعليم بصحار الأستاذ عقيل بن عبد النور الحسن الذي اتصل بدوره بالأستاذ/ موسى بن جعفر مدير عام البعثات يومها الذي قال لي عندما ذهبت لمُقابلته أنت ذهبت تشتكي على أحد المُديرين عندي. وفي تلك الأيام صادف وجود الأستاذ / صالح الجعفري، الملحق الثقافي العُماني في جدة الذي أكد لي أنه لم تصله أوراقي ووعد بأن يبحث لي عن قبول في إحدى الجامعات السعودية. وبالفعل تم قبولي في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، في قسم اللغة العربية وآدابها الذي هو قسم من أقسام كلية الآداب والعلوم الإنسانية. ولعل هذا القبول السريع تمَّ بسبب أن الأستاذ/ صالح الجعفري كان مكتبه في جدة، الأمر الذي مكنه من زيارة الجامعة والحصول على قبول سريع لي. ومن الغرائب أيضاً أن مدير البعثات الذي أشرنا إليه سابقا أصبح ملحقاً ثقافياً في جدة وربطتني به علاقة جيدة واستعان بي أكثر من مرة في مساعدة بعض الطلبة والطالبات المقبولين في جامعة الملك عبد العزيز بجدة. تُعد الدراسة في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك عبد العزيز بجدة نقلة نوعية في حياتي العلمية والثقافية لأمور عديدة أهمها ثلاث أسباب: أولها أن هذا التخصص هو استمرار لما درسته في معهد رأس الخيمة العلمي المتخصص في العلوم الشرعية واللغوية والأمر الثاني أنه تشكلت لدي مجموعة من المهارات والمواهب في هذه المرحلة منها موهبة الشعر التي بدأت معي في المعهد الذي أشرنا إليه ومهارات البحث والدراسة والكتابة في الصحافة والعمل في مؤسسات صحفية في الإجازة الصفية والمهارات الكشفية. ولا أظن أنه ستتاح لي هذه الفرص لاكتساب هذه المهارات والمواهب المتعددة لو درست في بلد آخر. أما الأمر الثالث أن مدينة جدة مدينة منفتحة على العديد من الثقافات والشعوب منذ سنوات طويلة بفضل مينائها القديم والــشهير الذي عن طريقه وصلت وفود الحجيج من أقصى دول العالم فهي تذكرني بمدينتي مدينة صحار في انفتاحها على العالم وتنوع ثقافاتها. لذا تجد الكثير من العلماء والأدباء والشعراء والفنانين والصحفيين ورجال الأعمال وبعض كبار المسؤولين هم من أهل جدة. ولعل أبلغ وصف في (جدة) ما قاله الشاعر السعودي الحجازي ( حمزة شحاتة 1908- 1972م): النُهى بين شاطئيك غريق// والهوى فيك حالم ما يفيق والتي تزين شاطئ الحمرا في جدة على ما أذكر، وهناك عبارات تتردد على ألسنة أهلها دلالة على شهرتها كقولهم (جدة غير يابويا) و (جدة أم الرخا والشدة إيوا). تتلمذت في هذا القسم على نخبة من الأكاديميين كالأستاذ الدكتور الناقد والمفكر عبد الله الغذامي الذي حدثت بيني وبينه اختلافات في وجهات النظر بحكم أنه من تيار الحداثة الذي كان يتزعمه الأستاذ سعيد السريحي في مقابل تيار التقليد والأصالة الذي كان يتزعمه الأستاذ الملباري وغيره، وكان لكل تيار صحيفة تتبناه وتفتح له صفحاتها كصحيفة المدينة وصحفية عكاظ. هذه المعارك كانت تذكرني بالمعارك الأدبية التي حدثت في مصر قبل أكثر من سبعين عاما (1914-1939) وكان من أقطابها مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد والدكتور طه حسين وأحمد أمين ومحمود محمد شاكر والدكتور محمد مندور، وكان مسرحها الصحف والمجلات الأدبية. وأذكر أنني أوعزت لإدارة النادي الثقافي حينها بدعوته لإلقاء محاضرة، وقد أكد لي الأستاذ أحمد الفلاحي أنهم وجهوا له الدعوة ولكنه اعتذر لظروف طارئة. والتقيت بأستاذنا الدكتور الغذامي في ندوة الشاعر ابن المقرب العيوني التي عقدت في البحرين ودعاني إليها الأستاذ الشيخ / عبد العزيز سعود البابطين رئيس مجلس إدارة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، ضمن نخبة من كبار المثقفين والأكاديميين من العالم العربي، سألته عن موعد وصوله لأني لم أره في الفندق فور وصولنا، فرد بلهجة أهل جدة (دوبني) التي تعني إنني وصلت في التو أو الآن، وكنت قد نسيت هذه الكلمة لأني تركت جدة منذ سنوات طويلة وتذكرت معناها عندما أعادها مرة أخرى. وقرأت له مقابلة في إحدى المجلات التربوية السعودية قبل سنوات طويلة ذكر فيها أنه عرضت عليه وزارة التربية والتعليم ولكنه اعتذر وفضل التفرغ لعمله الأكاديمي وكتاباته. ومن النخب الأكاديميية الأخرى الأستاذ الدكتور / عبد الهادي الفضلي أستاذ النحو والصرف والعروض وله في هذا المجال مجموعة من المؤلفات تعد مرجعا للباحثين والدارسين إلى يومنا هذا. والواضح أن أصوله عراقية وهو من سكان المنطقة الشرقية في السعودية، لهذا كان يحدثني عن الليمون العماني الذي يصدر من صحار وصحم ويسميه العراقيون (نيمون البصرة) لأنه يصدر إلى البصرة ومنها يوزع إلى باقي مدن العراق، لأن الليمون لا يُزرع في البصرة. ومن طرائف ما يذكر هنا أنني عندما كنت ملحقا ثقافيا في القاهرة، جاءني اتصال من رقم غريب يقول د.سعيد ألا تعرفني، قلت لا والله، قال أنا د. عبد المحسن فراج القحطاني أستاذك في جدة، وأبلغني أن أستاذي في جدة الأستاذ الدكتور فوزي سعد عيسى أستاذ الأدب الأندلسي والأستاذ بقسم اللغة العربية بجامعة الإسكندرية هو الذي أعطاه رقم هاتفي، وكانت بينهما صداقة فدعوته على الغداء في مطعم بالعجوزة يرتاده السعوديون في القاهرة وحضر محاضرتي عن الأدب العماني في دار الأهرام ضمن فعاليات جمعية الكتاب والأدباء التي زارت مصر في أكبر وفد لها، ومن الأساتذة الذي حببوا إليَّ علم اللغة وفقه اللغة واللغويات عمومًا الأستاذ الدكتور محمد يعقوب تركستاني الذي ارتبطت به أنا وبعض الزملاء في القسم بعلاقة طيبة، وسافرنا مع بعض لزيارة معرض الكويت الدولي للكتاب في عام 1985 على ما أذكر . ويعود سبب العلاقة الطيبة وحبي للغويات لموقف بسيط أثناء اختبار مادة علم اللغة وكان السؤال حول هل اللغة توقيفية أو اصطلاحية، فسردت آراء العلماء في الرأيين وأضفت عليه أن هذه مسألة جدلية سفسطائية لا طائل من ورائها وبدل الخوض في هذا الجدل الذي لا يفضي إلى نتيجة كان الأولى بنا القيام بدراسات حديثة وأطروحات علمية وتجارب ميدانية كما يفعل الغرب، وكان أن أعلن نتائج الاختبار وقال هذه أفضل إجابة مرت عليّ على هذا السؤال.
مشاركة :