زخرت مكة المكرمة بكوكبة رائدة من رجال العلم والتعليم كما زخرت بأبنائها من العلماء والمفكرين والشعراء، الذين مازالت كتب التاريخ والسير والتراجم تتحفنا بسير الأفذاذ والرواد الذين كان لهم ولمن سبقهم فضل كبير بعد توفيق الله عز وجل على الحركة العلمية والنهضة الحضارية في بلادنا، وكم كانت ساحات الحرم المكي الشريف تزخر بطلاب العلم بقدر ما كانت تمتلئ جنباتها بالمصلين الذين وفدوا لها من كل فج عميق. أمر الملك عبدالعزيز بمنحه «عمارة المالية» ليبقى قريباً من المسجد الحرام.. ورفض الملك فيصل قرار نقله للشرقية تقديراً له وكان الشيخ محمد نور بن إبراهيم كتبي سليل أسرة علم شرعي، ما زال أبناؤها يحفظون حق آبائهم وأجدادهم، لا سيما وقد ارتبط اسم الأسرة بخزانة الكتب والمكتبات، حتى إنّ مكتبة الشيخ محمد نور إبان تعيينه بالمدينة النبوية كانت محل ارتياد كبار العلماء وطلبة العلم، وما زالت إلى اليوم محفوظة باسم مؤسسها الشيخ محمد نور كتبي، الذي حفظ له ولاة الأمر مكانته ومقامه فكان نعم العالم الصادق في خدمة دينه ثم وطنه. اهتم عدد من المؤرخين بسيرة الشيخ محمد نور كتبي وترجم له عدد من العلماء والباحثين المعنيين بعلم التراجم والسير، كما تحدث عنه أبناء زمانه وأقرانه العلماء والأدباء والمشايخ، وكانت له -رحمه الله- صداقات وروابط حميمة بعدد من علماء المملكة والعالم الإسلامي. مولده وصفاته ولد الشيخ محمد نور بن محمد بن إبراهيم بن محمد عبدالله الكتبي في مكة المكرمة عام 1327ه وقيل عام 1323 والأولى أقرب، ونشأ -رحمه الله- في مدينة مكة المكرمة، وترعرع بها في حارة جبل هندي، وكانت ولادته في بيت علم وفضل، وكان والده العلامة والمحدث محمد بن إبراهيم كتبي من كبار علماء البلد الأمين، وصفه ابن أخيه الدكتور زهير كتبي بأنه ذكي، لماح، يرتدي الكوفية والغترة، ولا يضع على رأسه عقالاً، ويلبس العباءة العربية، تزين وجهه لحية بيضاء، يتسم بنظرة رقيقة حانية، فيه سماحة نفس وهدوء طبع أن يجمع القلوب حوله فأحبه الناس والتفوا حوله، فكانت داره كما كان مكتبه يزدحم بالناس والمراجعين وأصحاب الحوائج، تتجلى فيه روح الإخلاص، صريحاً يقول الحق لا يخشى فيه لومة لائم، عرف بسعيه للإصلاح بين الناس، وإعانته لهم، متواضعاً لا تفارقه الابتسامة. وقال عنه الأديب المدني سعود الحجام: "ذلك الرجل الذي يعد علماً من أعلام المدينة النبوية، فهو أحد قضاة المحكمة الشرعية بها، عرف بجنوحه للسلم في كل ما يعرض عليه من قضايا، فكم من قضية لعوائل كريمة تتعلق بطلاق أو خلافات زوجيه قد تفضي إليه تراه يجري الاتصالات ببعض رجالات المدينة من الذين عرفوا بحبهم لفعل الخير بأن يصلحوا ذات بينهم، فمتى ما تحقق له ما أراد سر له غاية السرور، وهو كذلك بالنسبة لقضايا الحقوق الخاصة كالديون والمواريث وغيرها، فإنّ له بصمات لا تمحى في قضايا بين أخوة وذوي رحم يكون له فيها دور فاعل كي لاتصل الأمور بها إلى أحكام شرعية، فتراه يلملم شعث خلافهم ويحاول جاهداً على ألا يكون لذلك الخلاف إي رواسب نفسية قد تؤثر على علاقاتهم الأسرية". طلب العلم حفظ الشيخ محمد نور القرآن الكريم مع تجويده على يد الشيخ عبداللطيف قارىء وهو خال أمه، وعلمه والده الشيخ إبراهيم كتبي أصول الفقه، كما تلقى على يديه التفسير والحديث، وألم بعدد من القراءات، والتحق بالمدرسة الصولتية عام 1331ه وبعد تخريجه منها واصل تعليمه في علم الفقه على يد الشيخ عمر بن حمدان، والشيخ الرواس وأخيراً على يد الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ صديق والده الحميم، وكان قد تخرج من القسم العالي في المدرسة الصولتية في أواخر سنة 1337ه، كما درس على يد علماء الحرم الشريف، ونهل من ينابيع علماء السنة والجماعة إلى أن أصبح فيما بعد أحد الأعلام البارزين الذين كتبوا في علوم الفقه وأصول الدين، لا سيما في المذاهب السنية الأربعة. ويذكر أنّ الشيخ محمد رحمه الله عين إماماً للمسجد الحرام عام 1340ه، وفي شهر رمضان كان يؤم المصلين في صلاة التراويح في محراب المذهب الحنفي، كما عين رحمه الله عام 1347ه بمرسوم ملكي مدرساً ومراقباً للدروس بالحرم المكي الشريف، واستمر إلى عام 1373ه، وانتخب حينذاك عضواً في المجلس الإداري بالمدينة المنوّرة، وعُيّن مستشاراً شرعيّاً لإدارة الأوقاف، ثم في عام 1349ه عين عضواً بهيئة التمييز، وفي عام 1355ه عين عضواً في مجلس المعارف بالمملكة، وفي ربيع الأول من عام 1357ه صدر الأمر الملكي بتعيينه رئيساً للمحاكم والدوائر الشرعية بالمدينة المنورة، كما عين مدرساً ورئيساً لهيئة العلماء والمدرسين بالحرم المدني الشريف، ورئيساً لكلية الشريعة في المدينة النبوية، كان بعد تخرجه من المدرسة الصولتية يدرس طلاب في الحرم المكي الشريف ويراقب الدروس، وفي عهد الملك عبدالعزيز وبعد توحيد إمامة المسجد الحرام أصبح الشريف محمد إماماً رسمياً، وفي شهر ربيع الأول من عام 1357 عين رحمه الله قاضي للمدينة المنورة ثم رئيساً للمحاكم. وذكر الدكتور زهير كتبي أنّ والده أبلغه أن الشيخ أم المصلين في المسجد النبوي الشريف، كما كان الشيخ يحرص على التدريس في حلق المسجد النبوي وله مكتبة كبيرة متنوعة العلوم والمراجع، وقد أوقفها ورثته بعد وفاته في مكتبة الحرم المدني الشريف، ولا تزال موجودة باسمه -رحمه الله- إلى يومنا هذا، ويقول ابن أخيه الدكتور زهير محمد كتبي أن عمه الشيخ محمد نور عين بعد تخريجه من الصولتية بترشيح من الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ رئيساً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة وكان مقرها ما بين باب الصفا وباب أجياد. مهامه وأعماله وكان الشيخ محمد نور كتبي من المقربين للشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ، وزامل حينها الشيخ سليمان الصنيع والشيخ عبدالله خياط يرحمهم الله، وفي عام 1349ه عين الشيخ محمد نور كتبي عضواً بهيئة تمييز الأحكام الشرعية، ولما علم جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله أنّه من أئمة المسجد الحرام ويسكن بعيداً عن المسجد الحرام أصدر أمره السامي الكريم أول عام 1355ه بمنحه العمارة العائدة لوزارة المالية، وانتقل إليها الشيخ محمد نور كتبي، وفي عام 1372ه التقى ولي العهد -حينها- الأمير سعود بن عبدالعزيز، فقدم لسموه طالباً إحالته على التقاعد فصدر أمر سموه الكريم بإحالته على التقاعد بكامل الراتب لما قدمه من خدمات جليلة لدينه ثم لوطنه. وحينما عين صاحب السمو الملكي الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز رحمه الله أميراً للمدينة المنورة فعينه عضواً من أعضاء مجلس الإدارة، وفي عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله كان سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وزيراً للعدل، فقد عمد الشيخ محمد نور كتبي لتولي القضاء في مدينة القطيف، وعند عرض الأمر على الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله رفض وأمر بأن يعين الشيخ في الحرمين، لا يكلف بالانتقال بعيداً عنها. وبعد مضي شهر من ذلك –أيضاً– صدر الأمر السامي الكريم بتعيينه مستشاراً شرعياً لإدارة أوقاف المدينة في عهد معالي الشيخ حسين عرب وزير الحج والأوقاف، ومع كل هذه الأعمال والمهام الجسام فإن الشيخ لم يقف أبداً عن طلب العلم والتعليم، كما كان يستثمر أوقات فراغه من أعماله في تدوين وتأليف الكتب، حيث ترك عدداً من المؤلفات والمراجع العلمية التي تدلل على سعة علمه واطلاعه في المذاهب السنية الأربعة، ولعل من أهمها كتابه النُّخبة المُعتبرة من مناسك الحجّ على المذاهب. كتبوا عن سيرته اهتم عدد من المؤرخين بسيرة الشيخ محمد نور كتبي وترجم له عدد من العلماء والباحثين المعنيون بعلم التراجم والسير، كما تحدث عنه أبناء زمانه وأقرانه العلماء والأدباء والمشايخ، وكانت له صداقات وروابط حميمة بعدد من علماء المملكة والعالم الإسلامي، وقد ورد ذكره في عدد كبير من المجلات الدورية والرسائل العلمية والكتب، كما ترجم له كل من المؤرخ يوسف بن محمد الصبحي في "وسام الكرم في تراجم أئمة وخطباء المسجد الحرام"، وعبدالله العلاف في "أئمة الحرمين" والأستاذ محمد خير رمضان "في تتمة الأعلام للزركلي"، والشيخ عبدالله الزاحم في "قضاة المدينة"، والشيخ الدكتور صالح بن حميد في "تاريخ أمة في سيرة أئمة"، والشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم في "تراجم أئمة الحرمين الشريفين"، وابن أخيه الدكتور زهير محمد جميل كتبي في "رجال من مكة"، وكذلك المؤرخ عبدالله بن منسي العبدلي في "المسجد الحرام في قلب الملك عبدالعزيز"، والأستاذ أنس كتبي في "أعلام من أرض النبوة"، كما ترجم له الدكتور عبدالله بن أحمد آل علاف الغامدي والأستاذ عبدالله الزهراني في كتاب "أئمة المسجد الحرام ومؤذنوه"، وكتب أخرى يطول عن المقام ذكرها ويصعب في المقال حصرها. وفاته في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر شوال عام 1402ه، انتقل الشيخ محمد نور كتبي -رحمه الله- إلى وجه ربه، وقد ناهز حينها الخامسة وثمانين من عمره، قضاها في العلم والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل الجاد في حل الخصومات والنزاعات بين الناس، وكان رحمه الله محل ثقة العامة والخاصة، وكان ولاة الأمر يجلونه ويقدمونه حتى أن الملك فيصل رحمه الله رفض تعيينه قاضياً في المنطقة الشرقية، وقال لمن أصدر الأمر بتعيينه إن الشيخ محمد رجل خدم دينه ثم وطنه عمل في الحرمين الشريفين وأمضى جزءاً كبيراً من حياته في القضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الآن في سن متقدم فلا يجب أن يكافأ إلا بما يليق به وبمكانته فهو قد خدم الحرمين ولا بد أن يعين قريب منها، وكان الشيخ لا ينساها للملك الراحل -رحمهما الله-، وكان له من الأبناء عشر بنات وابن واحد هو عبدالرزاق محمد نور كتبي، رحم الله الشيخ العلامة محمد نور كتبي رحمة واسعة.
مشاركة :