"إن المشكلة الحقيقية لا تقوم على إبعاد الأسلحة الأشد فتكا وتدميرا. بل المشكلة الحقة تقوم على جعل الحياة جديرة بأن تعاش، وعلى جعل الرغبة في الموت أو في إحداث الموت لا تظهر لدى الإنسان". المقطع أعلاه من كتاب "عنف الإنسان"، للأستاذ الجامعي فاوستو أنطونيني، يقارب فيه معضلة نفسية وفكرية، تتعلق بالطريقة التي ينتهجها أصحاب النزعات التدميرية. تلك النزعات العابرة للقارات والأديان والثقافات، وهو العبور الذي يأخذ شكل التشظي، لا التحاور، ولا التعايش أو التمازج والانصهار. الإشكالية العميقة التي يشير لها أنطونيني لا تكمن في الآلة المتمثلة في "الأسلحة"، وإنما في الدافعية لاستخدامها، والتفكير الذي يحركها. ف"الآلة" في نهاية المطاف صماء، خرساء، مشاعرها محايدة، وليس لها سلطة مطلقة تفرضها على الآخرين. وإن كانت التقنية، كلما تقدمت، توغلت أكثر في فرض أنماط سلوكية على البشر، وغيرت في طرق العيش، إلا أنها مع ذلك، لا تستطيع أن تكون فاعلة، دون رغبة من صُناعها ومستخدميها ومن يعيشون في كنفها. الرغبة في الموت تحوّل من حالة عُصابية نفسية، إلى سلوك عملي لدى الجماعات الأصولية، وهي الرغبة التي تجاوزت كونها أمرا ذاتيا يمارسه الفرد في حق نفسه، إلى سلوك عدواني جماعي، يتعدى على الآخرين وحقوقهم، ويفرض عليهم مسارا لا يريدونه، وموتا لم يختاروه بأنفسهم. التفجيرات التي استهدفت الأبرياء في برج البراجنة وباريس، وأتت نتيجة أعمال إرهابية قامت بها "داعش"، هي تمظهرٌ فاقع لحديث فاوستو أنطونيني، السابق. لأنها وببساطة تجعل الحياة ليست جديرة بأن تعاش، وتعمل على تقويض مفهومها كنمط وخيار طبيعي بشري، يمارسه أي فرد أو مجتمع طبيعي على البسيطة. ويحولها إلى مجرد محطة عبور سديمية، مؤقتة، ليس بها ما يستحق أن يقف المرء عنده. ومن هنا، جاء الموت، أو الإماتة، بغية الانتقال إلى عالم هو في المخيال الأصولي أكثر جدارة بأن يُعاش. باربارا ويتمر، في كتابها "الأنماط الثقافية للعنف"، ترى أن "أنماط العنف هي معتقدات تفصح، على نحو رمزي في الأغلب، عن المواقف السائدة في الثقافة". وهو ما يؤكد أن الخطوة الأولى لحل مشكلة العنف الأصولي، تبدأ من تقويض شبكة المفاهيم والأساطير والرموز التي ترسم يوتوبيا هذا المخيال الجمعي ل"داعش" وأخواتها. نقد النص المؤسس للعنف، والتكفير، وازدراء الآخر، ونفيه، هو ما يمكن أن يقوم لنزع الحجة من يد الأصوليين، وجعلهم يفقدون هالة قدسية دينية، طالما شهروها كسيف في وجوه الآخرين. الإرهاب الديني هو نوع من العنف أكثر خطورة من الجريمة المنظمة، ومن المافيا والعصابات الدولية. ليس لأن هذه الأخيرة أقل إجراما أو فتكا، وإنما لأنها لا تمتلك ذلك "السحر" الذي تمتلكه الأصولية، ألا وهو "المُقدس". عندما نجعل داعش عارية دون أي قداسة، ونعطي القيمة والأولوية لمفهوم الإنسان الفرد، والدولة المدنية، ونرسخ من قيم احترام حقوق الإنسان، والتعددية، والحوار، وقبول الآخر، بل، وشراكته وأحقيته التامة في الحياة والتملك والمشاركة دون قيود.. ساعتها، يمكن لهذا السحر الكاذب أن ينفلت من يد داعش وأخواتها، وتسقط عنهم ورقة التوت. هو مشروع تنوير ثقافي، لاهوتي، لا بد من النهوض به، لأن المعركة بين النور والعتمة طويلة، ولا مجال لتأخيرها!.
مشاركة :