يرى الشاعر والكاتب المصري أحمد الشهاوي أن المتصوفة استحقوا لقب “السلطان”؛ لأنهم سلاطين زمانهم، ولأن كل سلطان صوفي يرى نفسه سلطان زمانه، أو هو بالفعل هكذا، فقد وقع الصدام بينهم وبين “سلاطين السياسة” من الخلفاء والحكام والأمراء، ولذلك عاش سلاطين الصوفية تحت سيف هؤلاء المتسلطين، فكانت النتيجة المباشرة الصدام إلى حد القتل والتنكيل بهم، وهو ما يرصده الشهاوي في كتاب جديد. يضيء أحمد الشهاوي في كتابه “سلاطين الوجد.. دولة الحب الصوفي” العديد من المواقف التي تتخذها جماعات الإسلام السياسي من التصوف والمتصوفة، ويقدم رؤاه للحب والعطاء والجمال الصوفي، ثم يتوقف عند ثلاثة من سلاطين الوجد، هم الأقرب إليه. يقول الكاتب “عشت مع الصوفية زمنا ممتدا من حياتي، ومع آخرين أثّروا فيّ، وأثروا تجربتي، وسأخصص لهم كتبا، وأنا لا أكتب عن متصوفة أحبهم بقدر ما أكتب عن أهل لي، كان لهم فضل كبير علي منذ صباي في قريتي كفر المياسرة؛ حيث سلكت الطريق الصوفي في سن مبكرة، والمتصوفة الثلاثة محور هذا الكتاب هم: ذو النون المصري، وأبوبكر الشبلي، والنفري، الذي عاصر المتنبي وتوفي معه في سنة واحدة هي 354 هـجرية/ 965 ميلادية، رأيت أنهم كانوا سلاطين في زمانهم، ولهم سطوة روحية على من عاصرهم. وكانت كلمتهم مسموعة عند الناس؛ لأنهم لم يتقربوا من سلطان جائر ظالم، ولم يتربحوا منه”. ويتابع “إنهم أرباب الحقائق، وليسوا من ‘أهل الظاهر’ أو ‘أهل الرسوم’، إنهم ‘رجال قطعهم الله إليه وصانهم صيانة الغيرة عليهم؛ لئلا تمتد إليهم عين فتشغلهم عن الله. لقد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم مع الله طرفة عين’ بتعبير محي الدين بن عربي، الذي كان من ضمن أسمائه ‘سلطان العارفين’، مثلما كان اسم عمر بن الفارض ‘سلطان العاشقين"”. أعداء التشدد يشير الشهاوي في كتابه الصادر عن الدار المصرية اللبنانية إلى أن “الصوفي هو الذي ينفض يديه وقدميه وملابسه وهو ماش على الأرض، أي أرض، سواء أكانت له، أم وقفا، لا يبتغي منصبا، أو جاها، أو سلطانا، متيقنا أنه صار نقيا من آثار الدنيا الزائلة الفانية. ولا يتاجر إلا في ثمار الصدق، ومن دون تكالب على ما هو دنيوي، يزهد فيما يقبل الناس عليه، لا يتعلق بشيء، هو ابن للمجاهدة، يسلك الطريق، مداويا نفسه، قبل أن يداوي سواه، يسير في النور، مثلما تسري الإشارات في روحه، يكشف ما احتجب وما استتر وخفي عنه، يجلو مرآة قلبه ويصقلها بالإشراق حتى تتجلى، وأن يعرف مكنون نفسه؛ كي يسهل له الوصول بعد تمام الوصل، حيث تنكشف له أمور لا تعد ولا تحصى”. ☚ التصوف يفتح فيضا من المعاني الربانية وآفاقا معرفية لا حد لها أمام الصوفي ويؤكد أن “الصوفي رحب، وذو شسوع، قلبه يسع الكون، لا يفلت الزمام منه، مهما تكن المتع والمغريات، صاحب كبرياء وأنفة، على الرغم من بساطته وتواضعه، حبل روحه مربوط بالنور، وممتد بمشكاوات السموات. لا يقع في الشباك أو الحبائل التي يدبرها الأغيار أو العابرون أو المارون على الدين. لا يعرف الخزي أوالخذلان أو الذلة أو الحسرة أو البغضاء أو الحسد، يصير شخصا آخر جديدا كلما طلعت شمس، يسلب ولا يسلب. الصوفي صاحب نظر؛ لأنه من أهل الصفاء، ملآن بالإلهام، قلبه يشرق بالنور، يمتاز عن سواه بالعرفان، إذ يسمو عن عالم المادة، أفادته خلوته وغيبته عن الناس، وكثرت سياحته الروحية، يشتد به الوجد سواء أكان وحده أم وسط زحام من البشر”. ويقر بأن التصوف يفتح فيضا من المعاني الربانية وآفاقا معرفية لا حد لها أمام الصوفي، إذ يسلك الطريق ببصيرته المعرفية. فالصوفي هو عالم رباني، روحه تشرق بالأنوار، تربى على علم القلوب، وهو الوهب لا الكسب، أو العلم الوهبي. ويضيف الشهاوي أن الصوفيين لا يكفرون أحدا من أية ملة. وهم ليسوا أهل استبداد أو طغيان أو عدوان، إنهم فقط قريبون من الله. لا يعرفون غلوا أو تعنتا، بل هم أبناء السماحة والاعتدال، بديعون وليسوا مبتدعين، متفانون في عبادته، وزاهدون في الثروة والمظاهر، لا يبتغون ملذات الدنيا الفانية، ومتقشفون في كل شيء، ومكتفون بقلوبهم النقية المتطلعة إلى الحب، وبعيدون عن التحارب والتقاتل والتطاحن والتكالب والمذهبية، مشغولون بتصفية قلوبهم، فهم يجاهدون روحيا ولا يحملون أي أنواع من الأسلحة، مسالمون بطبيعتهم، وبحكم أخلاقهم وتربيتهم النفسية، ويسلكون طريق الحق والهداية، يبحثون عن الحقيقة المطلقة التي يسعون إليها، ويطلبون الوصول إليها. ويؤمنون بأن الذهاب إلى الله وعبادته والتضرع إليه على عدد أنفاس البشر، ويرشدون الخلق إلى طرق الحق، يدفعون الشر ويستجلبون الخير. ويلفت إلى أن “المتصوفة في مصر أو في غيرها من الدول مستهدفون ومطاردون ومحاربون من المتشددين قديما وحديثا، ويساء الظن بهم دائما، والأمر لا يختلف كثيرا عندما سيق إلى الذبح قطبان صوفيان من أقطاب الوقت وهما الحلاج والسهروردي، إذ تهدم أضرحة الأولياء والمتصوفة، أو تحرق مساجدهم أو يتم تدميرها، والاعتداء على المصلين بها، إذ يرى السلفيون بطوائفهم المختلفة أن الصوفيين كفار وملاحدة، ويناهضونهم، ويناصبونهم الكراهية والعداء”. ويرى أن المتشددين في زماننا هذا يكفرون المتصوفة ويحرقون كتبهم ويمنعونها، ويستهدفون المكتبات التي تبيعها، والناشرين الذين ينشرونها. ففي مصر مثلا رأينا سلفيين متطرفين ومرتزقة من جماعة داعش أو سواها من جماعات الإسلام السياسي قتلت الأب الروحي للصوفيين الشيخ سليمان أبوحراز السواركي الأشعري الشافعي في سيناء، وأحد أبناء قبيلة السواركة، وكان ضريرا ومسنا يبلغ عمره حوالي مئة سنة، وخير من يمثل الإسلام المعتدل الذي يتنافى مع أفكار الجماعات المتطرفة والشاذة التي تلبس الدين رداء خارجيا لها، حيث اتهمت الشيخ الزاهد بالكهانة والسحر، وادعاء علم الغيب، ودعوة الناس للشرك، وذبحته وذبحت معه الشيخ قطيفان المنصوري الذي تم قتله بالطريقة نفسها، وبالتهم نفسها. ويضيف “لقد وزعت داعش، أو تنظيم أنصار بيت المقدس أو ولاية سيناء لا فرق عندي بينها في التطرف والتشدد وممارسة الإرهاب باسم الدين، فيديو يصور مقتلهما مصحوبا بجملة تنفيذ الحكم الشرعي على كاهنين، وكان ذلك في سنة 2016 ميلادية”. ويقول “كأن هؤلاء القتلة المجرمين لا يدركون أن الدين -أي دين- يحرم سفك دم الأبرياء، ويشدد على حرمة دماء العجزة والضعفاء وكبار السن. كما فجرت عددا من الأضرحة الخاصة بالصوفيين في كل من الشيخ زويد والروضة بسيناء، ثم فجرت مسجدا في يوم جمعة، مسجد قرية الروضة، وكان مقرا للطريقة الجريرية الأحمدية الصوفية، ببئر العبد في سيناء، أثناء صلاة الجمعة“. محاربة التصوف ☚ المتصوفة في مصر أو في غيرها من الدول يساء الظن بهم دائما، لذلك هم مستهدفون من المتطرفين ☚ المتصوفة في مصر أو في غيرها من الدول يساء الظن بهم دائما، لذلك هم مستهدفون من المتطرفين يلاحظ الشهاوي أن تاريخ المسلمين ملآن بتعذيب وقتل المتصوفة والعلماء والفقهاء والأئمة والشعراء، ولو منحت نفسي فرصة الجمع والإحصاء لاحتجت سنوات؛ كي أفي بملف كهذا، ولكنني سأضع هنا عددا قليلا من رموز التراث الذين اتهموا بالزندقة والإلحاد مثل: الرازي، والخوارزمي، والكندي، والفارابي، والبيروني، وابن سينا، وابن الهيثم، وأبو حامد الغزالي، وابن رشد، والعسقلاني، وابن حيان، والنووي، وابن المقفع، والطبري، والكواكبي، والمتنبي، وبشار بن برد، ولسان الدين الخطيب، وعمر بن الفارض، ورابعة العدوية، والجاحظ، وأبو العلاء المعري، وابن طفيل، وابن بطوطة، وابن ماجد، وابن خلدون، وثابت بن قرة، وابن المنمر، والأصفهاني، والجعد بن درهم، وأحمد بن نصر، وأحمد بن حنبل، وفضل الله الأسترابادي ـ مؤسس المذهب الحروفي، والذي اتهم بالهرطقة، وأعدم في عام 1393. كما يذكر علي عماد الدين النسيمي أحد أبرز شعراء الصوفية باللغة التركية ومؤسس الشعر التركي باللهجة الجنوبية الغربية “التركمانية – الأذرية”، وتخلصت منه الدولة المملوكية في سوريا بعدما اتهمه علماء الدين في حلب بالهرطقة، وتشير المصادر إلى “أنه بعد أن سلخ جلده وقطع رأسه وبترت أعضاؤه، حمل جلده المسلوخ على كتفيه وغادر حلب عبر أبوابها الاثني عشر معا”. وتعده الطائفة البكداشية (البكتاشية) أحد شعرائها السبعة المقدسين”.. وهؤلاء وغيرهم من الرموز قد كُفروا وعذبوا وطوردوا ونكل بهم، وضُربوا بالسياط، وأُحرقت كتبهم أو دفنت في باطن الأرض أو أتلفت أو غسلت بالماء. الصوفي رحب، وذو شسوع، قلبه يسع الكون، لا يفلت الزمام منه، مهما تكن المتع والمغريات، صاحب كبرياء وأنفة ويرى أن مصر بلا موالد ينقصها الكثير من الفرح والبهجة والإشراق. ويقول “إذا كان للمسلمين في مصر عيدان هما عيد الفطر وعيد الأضحى فإن الموالد الدينية الصوفية كانت أعيادا دائمة موزعة على جغرافيا مصر الممتدة في ريفها وحضرها. والمولد كما عرفته في طفولتي وصباي طقس شعبي ديني، يتم فيه الاحتفاء والاحتفال برمز صوفي، أو بطريقة صوفية رئيسية، أو فرعية تمثل جزءا من خريطة الطرق الصوفية في مصر. ومنذ القرن السابع هجريا (13م)، ومصر تحتفل بأوليائها وأقطابها من المتصوفة، سواء من ولدوا على أرضها، أو من مروا بها في طريقهم إلى الحج، أو من مكثوا فيها بضع سنوات من أعمارهم، ولكن الحال تبدلت واختلفت مع هبوب رياح المذاهب السلفية المتشددة، وبروز الجماعات الدينية المتطرفة والموغلة في سفك الدماء، وتكفير الناس والدولة، وإطلاق يد جماعة الإخوان، حتى تمكنت من مفاصل الحياة جميعها، وصارت لها ذراع طويلة تضرب وتنخر في كل شأن”. ويتابع الشهاوي أن كل طائفة من هذه الطوائف السلفية أرادت بهمة ودأب أن تطرد الصوفيين من الساحة، فعمدت إلى تكفيرهم ومحاربتهم بدعم خارجي من دول ترى في التصوف كفرا، وتريد تسييد مذهبها الذي لا محل له بين المذاهب الدينية التي يعرفها المسلمون في العالم، وتحض على هدم مقامات أقطاب التصوف، وتدمير مقابر الأولياء، بحيث لا يكون في المشهد الديني -الذي هو أساسا سياسي، ولا يزيد على كونه صراعا على السلطة- غير الإخوان والسلفيين، ومن دار في فلكهم، ومن ثم انتشر الدم، وبرزت إلى السطح جرائم الاغتيالات، وقتل السياح، وضرب المدارس، وسكب مياه النار على النساء في الشوارع؛ لأن لباسهن ليس شرعيا، ولأنهن تاركات شعورهن تنسدل على أكتافهن، وسرقة محلات الذهب، والنيل من الأقباط، ومهاجمة الكنائس، واغتيال الكتاب والمفكرين ممن لهم آراء أخرى تناهض هؤلاء الأدعياء الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الدين، وحماة العقيدة، ونواب الله، وأصحاب التوكيل الوحيد من السماء، والوسطاء الرسميين بين العبد وربه. ويوضح أنه مما يؤسف له أن رأينا الأزهر والأوقاف ودور النشر تمتنع في أغلبها عن نشر كتب التصوف، بل إن هناك دارا للنشر كانت تأخذ دعما سخيا من إحدى الدول مقابل ألا تنشر كتبا للتصوف، إلى حد أن هذه الدار ارتكبت جريمة لا تغتفر، حيث امتنعت عن تسليم أصول الكتب التي لديها حول التصوف، ومنها كتب مترجمة من الفرنسية إلى العربية، أنفق أصحابها سنوات من أعمارهم في الاشتغال عليها، وكان رد الدار أنها فُقدت وضاعت، ولم يكن المؤلفون وقتذاك لديهم نسخ أخرى كعادة هذه الأيام، حيث تتوفر وسائل التكنولوجيا الحديثة في عمليات الطباعة.
مشاركة :