تنفست الأجهزة الأمنية الفرنسية الصعداء جزئيا بعدما أثبتت الفحوصات المخبرية أن أحد القتلى الذين سقطوا في شقة في قلب ضاحية سان دوني، خلال المواجهة بين كوماندوس الشرطة وساكني الشقة التي داهموها، هو بالفعل المواطن البلجيكي من أصل مغربي عبد الحميد أباعود، ولقبه أبو عمر البلجيكي أو أبو عمر السوسي والذي يعد «العقل المخطط» للعمليات الإرهابية التي ضربت باريس وملعب فرنسا الكبير. في المقابل، يثير وجود هذا الأخير بين القتلى كثيرا من المخاوف والتساؤلات عن كيفية عودته من سوريا إلى بلجيكا وفرنسا، وتحركه بحرية بين البلدين، وقدرته على تشكيل وإدارة مجموعات إرهابية للقيام بست عمليات متزامنة والتحضير لعمليات إضافية تقول الأجهزة الفرنسية أنها كانت ستستهدف حي رجال الأعمال والمال المعروف باسم «لا ديفانس» والواقع على مدخل العاصمة الغربي. إلى ذلك، فإن الأجهزة الأمنية كانت تأمل في وجود الفرنسي المقيم في ضاحية بروكسيل صلاح عبد السلام مع مجموعة سان دوني. لكن نتائج أمس أكدت أن الأخير، الذي شارك في إطلاق النار ليل الجمعة السبت على زبائن أرصفة المطاعم في الدائرة الحادية عشرة من باريس، ما زال طليقا. من جهته، اعترف وزير الداخلية، برنار كازنوف، أن وزارته وأجهزتها «لم تتلق أي معلومة من أي بلد أوروبي» بشأن أباعود الضالع على ما يظن في التحضير لأربع عمليات إرهابية في فرنسا منذ الربيع الماضي وكان «مسؤولا» عن تأطير الجهاديين الفرنسيين والناطقين بالفرنسية. ويعزز كلام كازنوف فرضية أن المعلومة التي قادت الشرطة إلى شقة سان دوني جاءت من المغرب ومن مصادر أميركية. وأكد كازنوف أن مسؤولية «أبو عمر» مثبتة في محاولة تفجير كنيسة في ضاحية إيفري في مدخل باريس الجنوبي والتي أجهضت لأن الشاب الجزائري المكلف بتنفيذها، والمشتبه أنه هو من قتل امرأة تصادف وجودها في المنطقة، جرح نفسه بالسلاح الذي كان يحمله، ما قاد الشرطة إلى اعتقاله. في هذا السياق، وبالنظر إلى «الثغرة» التي تبينت في تعاون الأجهزة الأمنية الأوروبية، سيسعى كازنوف في اجتماع اليوم في بروكسل الذي سيضم وزراء الداخلية الأوروبيين كافة إلى الدفع باتجاه مزيد من التنسيق بين الدول في الموضوع الإرهابي، وخصوصا في تبادل المعلومات الأمنية. ورغم الحملة التي قادتها فرنسا منذ شهر يناير (كانون الثاني) الماضي لإقرار قانون إنشاء بيانات أو «داتا» المعلومات الخاصة بالمسافرين الخطرين من وإلى أوروبا خصوصا عبر الأجواء، إلا أن هذا المشروع ما زال عالقا في البرلمان الأوروبي. وكانت مسألة وجود أبو عمر بين القتلى قد شغلت الأجهزة الأمنية التي كانت عاجزة على التعرف على جثته بسبب ما أصابها من تشوهات خلال المعركة. وكشف المدعي العام، فرنسوا مولينس، أن القوة المقتحمة استخدمت 5 آلاف طلقة نارية، ناهيك بالمتفجرات التي وضعت لتدمير باب الشقة الموجودة في الطابق الثالث. وبسبب عنف المعارك، انهار أحد الأسقف واضطرت الأجهزة إلى تدعيم المبنى وسط مدينة سان دوني حتى لا يتداعى. وبحسب مولينس، فإن التعرف على أبو عمر تم بالاستناد إلى مقارنة بصماته بـ«داتا» المعلومات التي وصلت إلى باريس من بروكسل. وبالمقابل، لم يكن مختبر الشرطة في باريس قد نجح في تحديد هوية المرأة التي وصفت بـ«الانتحارية» ولا معرفة ما إذا كان هناك قتيل ثالث في الشقة عينها، إذ تحتاج المختبرات لمزيد من الوقت لفحص الأشلاء التي تناثرت في أرجاء الشقة. بعد ستة أيام على عمليات نهاية الأسبوع الماضي، ما زالت الأجهزة الفرنسية حائرة بشأن الدور الذي لعبه أبو عمر البلجيكي إذ ليس من المعلوم ما إذا كان حاضرا في مسرح العمليات ليلة الثالث عشر من نوفمبر (تشرين الثاني)، ولا ما إذا كان شارك مباشرة في العمليات بعكس الدور الذي لعبه صلاح عبد السلام الذي ثبتت مشاركته من خلال شهادات أشخاص كثيرين ومن خلال العثور على بصماته على أحد رشاشات الكلاشنيكوف التي وجدت في إحدى السيارات المستخدمة في الهجمات. وستستمر المختبرات العلمية في التحري من خلال البصمات للتأكد من الدور الذي لعبه، فيما لم تبدد الشكوك لجهة مشاركة إرهابي تاسع في العمليات. وحتى أمس، لم تكن الجهات الأمنية أو المدعي العام قد كشفوا عن هويات الأشخاص الثمانية، بينهم امرأة، الذين قبضوا عليهم في عملية سان دوني، والمعروف منهم أحد الرجال الذي ادعى أنه «استضاف» عدة بلجيكيين في شقة يملكها لإسداء «خدمة» لصديق طلبها منه. مقابل هذه التطورات الميدانية، سرعت الحكومة في تنفيذ الإجراءات والتدابير التي أعلن عنها الرئيس فرنسوا هولاند في خطابه أمام مجلسي النواب والشيوخ مجتمعين في قصر فرساي التاريخي. إذ أقر مجلس النواب بما يشبه الإجماع تمديد حالة الطوارئ ثلاثة أشهر تنتهي في 26 فبراير (شباط) القادم. وسيعرض مشروع القانون اليوم على مجلس الشيوخ، بحيث يكون نافذا قبل نهاية الأسبوع الحالي. من جهته، حذّر رئيس الحكومة، مانويل فالس، من خطر تعرض فرنسا لهجمات «كيماوية أو بيولوجية». وأثارت كلمة فالس كثيرا من القلق والتساؤلات، خصوصا أنه سبقها قرار حكومي بفتح مستودعات الجيش لتوزيع مضادات السموم المستخدمة في الأسلحة الكيماوية على مراكز الطوارئ في فرنسا. لكن أوساط رئيس الحكومة سارعت، بعد ذلك، إلى التأكيد أن فالس لا يشير إلى تهديد محدد بل إلى «فرضية يمكن أن تحصل في المستقبل». وبرأيهم أن إهمال هذه الفرضية خصوصا أن الخبراء يؤكدون أن «داعش» سبق له أن استخدم السلاح الكيماوي وتحديدا ما يسمى «غاز الخردل» في سوريا أكثر من مرة سيكون بمثابة «خطأ لا يغتفر». أما على الصعيد التشريعي، فإن تمديد العمل بحالة الطوارئ لستة أشهر يعزز «مناعة» فرنسا ويعطي القوى الأمنية صلاحيات إضافية، والدليل على ذلك أن هذه الحالة التي أعلنت في مرحلة أولى لمدة 12 يوما، أفضت إلى القيام بما يزيد على 400 عملية دهم عبر البلاد. وأبرز ما ينص عليه القانون فرض الإقامة الجبرية في المنازل على كل شخص يوحي تصرفه بأنه يشكل تهديدا للأمن العام. كذلك يعطي القانون الجديد للأمن إمكانية القيام بعمليات دهم من غير الحاجة لإذن قضائي. واستثنيت من هذه العمليات مكاتب النواب والمحامين والقضاة والصحافيين. ويحذف القانون الجديد مادة من قانون الطوارئ السابق لعام 1955 لجهة فرض الرقابة على الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى. إلى ذلك، يعطي القانون للأمن إمكانية تعطيل مواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي وحل الجمعيات التي يظن أنها «تمجد» الإرهاب أو تبث الحقد أو تحفز على القيام بأي أعمال تهدد الأمن في البلاد. أما على المستوى الخارجي، فقد استمرت المساعي الفرنسية لإقامة «التحالف» الذي يريده الرئيس هولاند لمحاربة «داعش»، إذ اتصل بالرئيس أوباما وبمسوؤلين آخرين، بمن فيهم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، للدفع في هذا الاتجاه. لكن البارز هو التقارب الملحوظ بين باريس وموسكو. وفي سياق التقارب الفرنسي - الروسي، وفي سياق زيارة هولاند إلى موسكو يوم الجمعة المقبل للقاء الرئيس بوتين، عاد التواصل على المستوى العسكري بين الجانبين بعد أن كان قد انقطع منذ أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم إلى أراضيها في شهر مارس (آذار) من العام الماضي. وأمس، جرى اتصال هاتفي لمدة ساعة بين رئيسي أركان البلدين الجنرال بيار دو فيليه الفرنسي والجنرال فاليري غيراسيموف الروسي من أجل تنسيق عمليات القصف ضد مواقع «داعش» والعمل المشترك بين البحريتين في المتوسط. ونقل عن غيراسيموف قوله إنه تم «تبادل الرأي حول الوضع الحالي» في سوريا، معتبرا أن العمليات الإرهابية التي ضربت باريس وإسقاط الطائرة المدنية الروسية فوق سيناء بمثابة «حلقات في سلسلة». وكان بوتين قد أمر قواته البحرية في شرق المتوسط بالتعاون مع المجموعة البحرية الفرنسية ومعاملتها كـ«قوة حليفة»، مستعيدا ذكرى المعارك المشتركة التي خاضها الجانبان ضد ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
مشاركة :