بعد سنوات عجاف استمرت منذ منتصف عام 2014، عاد سعر النفط في الأسواق الدولية للصعود متجاوزًا 80 دولارًا للبرميل، بمجرد أن اتخذت الدول الاقتصادية الكبرى توجهًا في التعامل مع جائحة كورونا، يقضي بالتعايش معها، وعدم الإغلاق، الذي عانى منه العالم كثيرًا، وألحق خسائر غير مسبوقة باقتصادات كل الدول. وحتى يوليو2021، كانت تقديرات «صندوق النقد الدولي»، لخسائر الناتج الإجمالي العالمي تبلغ 22 تريليون دولار، ولم تكن قطاعات السياحة والطيران والنقل هي فقط المتضررة، لكن الضرر امتد لمعظم القطاعات، وربما كانت القطاعات التي استفادت هي قطاعات الصحة والاتصالات وخدمات التوصيل. غير أن عدم قدرة الدول والشركات الكبرى على تحمل هذه الخسائر الكبيرة، جعلها تفضل سيناريو عودة الاقتصاد إلى العمل متعايشًا مع كورونا. هذا الاتجاه أحدث على الفور يقظة في قطاعات النقل والطيران والسياحة والقطاع الصناعي، كان لها أثر مباشر على أسعار النفط، برغم المخزونات الكبيرة، التي كان قد كونها كبار المشترين للمحافظة على أمن الطاقة في بلادهم. وفي أكتوبر2021، تعدى خام برنت 85 دولارا للبرميل، وهو أعلى مستوى له منذ منتصف 2014. وكان هذا الارتفاع نتيجة زيادة الطلب بقوة وسط شح الإمدادات في فترة التعافي من الجائحة، والزيادة الجنونية في أسعار الغاز والاتجاه إلى النفط كبديل لتوفير الوقود، استعدادًا لشتاء قارس جدًا في أوروبا وأمريكا، وارتفاع أسعار الفحم وشح إمداداته في الأسواق العالمية خاصة الصين، وسياسات «أوبك بلس»، المحافظة على ارتفاعات ضئيلة لا تواكب السوق، واستمرار تقلص إمداد الخام الأمريكي بمقدار مليوني برميل يوميًا. ومع إقفال أول أسبوع من العام الجديد، بلغ سعر خام «برنت»، 82.53 دولارا للبرميل، و«غرب تكساس»، 79.96 دولارا للبرميل، وخام «أوبك» 78.93 دولارا. وفي ظل عدم قدرة الإمدادات على ملاحقة الزيادة السريعة في الطلب، توقع بنك الاستثمار الأمريكي «جولد مان ساكس»، ارتفاع أسعار خام برنت إلى 90 دولارا، بنهاية العام الحالي، وعزز هذا التوقع إقبال المضاربين على الشراء بكميات كبيرة، فيما كانت هذه الأسعار قد تهاوت قبل ذلك بسبب جائحة كورونا، التي أدت إلى تراجع الطلب إلى ما بين 20 و27 دولارا للبرميل، وأدت محدودية السوق حينئذ إلى عدم توصل أوبك وروسيا إلى اتفاق حول خفض الإنتاج وتقليص العرض في السوق العالمية. ومن المعلوم أن اقتصادات دول الخليج، قد عانت حتى من قبل جائحة كورونا من انخفاض هذه الأسعار، ووقعت ميزانيتها العمومية في دائرة العجز، واضطرت إلى السحب من صناديقها السيادية، والاقتراض من الأسواق المالية الدولية، وتأجيل تنفيذ مشروعات استراتيجية، وتنفذ استراتيجيات تنموية لعالم ما بعد النفط، لتنقل اعتمادها الأساسي إلى القطاعات غير النفطية. ومع صدمة جائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط، كانت هذه الدول قد نفذت إجراءات عديدة كبحًا للإنفاق، واستحدثت مصادر إيرادات حكومية بديلة للعائدات النفطية، فزادت السعودية مثلاً ضريبة القيمة المضافة ثلاثة أمثالها، وفيما كان إجمالي عجز ميزانيات الدول الست في مجلس التعاون، قد بلغ 143 مليار دولار في عام 2020، توقعت وكالة «استاندرد آند بورز» للتصنيف الائتماني، أن ينخفض هذا العجز إلى نحو 80 مليار دولار في 2021، مدعومًا بارتفاع أسعار النفط، وتحسن الأوضاع المالية، وانتعاش الإنتاج الاقتصادي، بفضل تخفيف إجراءات مكافحة فيروس كورونا، غير أن ذات الوكالة قد توقعت عودة عجز الميزانيات الخليجية إلى الارتفاع في 2023 و2024، متأثرًا بتوقع أن ينخفض سعر النفط ويقل الإنتاج. وما أن ارتفعت أسعار النفط في بداية الربع الأخير لعام 2021، حتى قررت الولايات المتحدة، والصين، واليابان، الإفراج عن كميات كبيرة من مخزوناتها للاستفادة من هذا الارتفاع. ومع قرار «أوبك بلس»، الاستمرار في زيادة الإنتاج بمعدل 400 ألف برميل يوميًا لشهر يناير الحالي، والتهديد المحتمل الذي يشكله المتحور الجديد لكورونا «أوميكرون» على النشاط الاقتصادي العالمي؛ فإن ذلك من شأنه زيادة معروض النفط، ومن ثمّ انخفاض أسعاره، التي هبطت إلى نحو 65 دولارا للبرميل بعد أن كانت قد تجاوزت الـ80 دولارا. ورغم أن هذه تقلبات في الأجل القصير، إلا أن التحذير الذي أطلقه وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان في ديسمبر الماضي، من أن إنتاج النفط عالميًا قد ينخفض بمقدار 30 مليون برميل يوميًا بحلول نهاية العقد؛ لأنه لا يوجد ما ينفق على التنقيب عن موارد جديدة وتطويرها ما يعني أن مجمل الإنتاج العالمي سيكون أقل من 70 مليون برميل يوميًا، يعني أنه في المدى المتوسط والطويل سيواجه العالم أزمة طاقة، الأمر الذي من شأنه عودة الأسعار إلى الارتفاع، وقد تتجاوز في وقت قريب 100 دولار للبرميل. يأتي هذا فيما استبعد نائب رئيس الوزراء الروسي في 24 ديسمبر الماضي، أن تتغير أسعار النفط كثيرًا في 2022، رغم تعافي الطلب على الخام، وعودته إلى مستويات ما قبل كورونا، حيث أكد أن بلاده سترفع إنتاجها النفطي من 524 مليون طن في 2021 إلى 550 مليون طن في 2022. ومن المعلوم، أن هذا يأتي في اتجاه إلغاء تخفيضات الإنتاج بمناسبة الجائحة، بمقدار 10 ملايين برميل يوميًا، التي أقرتها «أوبك بلس» في 2020. وفي عام 2021 ارتفعت أسعار خام برنت بأكثر من 50%، فقررت المنظمة في يوليو 2021، رفع الإنتاج بدءًا من أغسطس بواقع 400 ألف برميل يوميًا لكل شهر، وقللت من التأثير المحتمل لأوميكرون. ومع هذه الزيادة فإن الإنتاج العالمي يزيد على الطلب بمقدار 1.4 مليون برميل يوميًا في الأشهر الثلاثة الأولى لعام 2022، وهو ما يعني ضغطًا على الاتجاه الصعودي للأسعار، يبقيها عند مستواها الحالي، كما توقع المسؤول الروسي. غير أن العبرة ليست بهذه التقلبات التي تحدث في الأجل القصير، ولكن بأخذ التحذير السعودي مأخذ الجد، والذي استند فيه إلى أن الطلب مع نهاية هذا العقد سيتجاوز بكثير حجم الإنتاج، وأن الفجوة قد تصل إلى 30 مليون برميل يوميًا. يعزز هذا التحذير ارتفاع درجة عدم اليقين وتأثيرها على الاستثمارات العالمية، فخلال العامين الماضيين قبل الجائحة كان معدل الإنتاج اليومي من الخام الصخري الأمريكي 13 مليون برميل يوميًا، وأدى تأثر النشاط بسبب جائحة كورونا، وحاجة هذا الخام إلى استثمارات ضخمة -لم تتوفر- إلى هبوط هذا الإنتاج إلى 11 مليون برميل يوميًا. وكانت وكالة «بلومبرج»، قد توقعت أن أسعار النفط ربما تتجاوز حاجز 100 دولار للبرميل هذا العام، وهو ما أكده كثير من المحللين والبنوك الاستثمارية، نتيجة انخفاض مستويات المخزون وعودة التعافي الاقتصادي، وموجة البرد القارس. وتتوقع «أوبك»، ارتفاع الطلب العالمي خلال عام 2022، بمعدل 4.2 ملايين برميل يوميًا، ليتجاوز هذا الطلب على النفط الخام 100 مليون برميل يوميًا. ومع انخفاض المخزونات الأمريكية لم يتمكن الإنتاج من تغطية الطلب، كما أدت موجة البرد الشديدة إلى عجز الإمدادات الكندية عن تلبية الطلب الأمريكي، وأدت الخسائر الهائلة التي تكبدها المستثمرون في شركات النفط الصخري الأمريكي إلى ضغطهم على هذه الشركات كي لا تعاود الضخ بكميات كبيرة حتى لا يتعرضوا ثانية لمثل هذه الخسائر. وإدراكًا من «أوبك بلس»، من مخاوف تكون فائض كبير من النفط، ومحدودية تأثير «أوميكرون»، فقد قررت في اجتماعها في 4 يناير 2022، الالتزام بالزيادة المزمعة في إنتاج النفط لشهر فبراير، بمقدار 400 ألف برميل يوميًا. ومن المعلوم أن الولايات المتحدة كانت قد حثت هذا المنظمة على ضخ المزيد من النفط الخام لدعم التعافي الاقتصادي العالمي وتهدئة الأسعار، غير أن «أوبك بلس»، صرحت أن السوق لا يحتاج مزيدا من النفط، خاصة وأن به فائضا يقدر بـ1.3 مليون برميل في اليوم في فبراير، وهو أقل كثيرًا من تقديراتها السابقة التي كانت 3 ملايين برميل يوميًا، ما يعني أن فجوة العرض والطلب تتقلص، وأن تخمة المعروض آخذة في الاختفاء. ومن المعلوم، أن توازن العرض والطلب يبقي على الأسعار عند مستواها الحالي، مع تذبذب صعودًا وهبوطًا؛ بسبب العوامل المؤثرة على كلا الجانبين، غير أن العامل الأكثر تأثيرًا على المدى الطويل، هو تباطؤ الاستثمارات في هذا القطاع، إذ لا تزال الشركات النفطية مترددة في قرارات الاستثمار الاستكشافية والتنقيب الجديد، وليس من المؤكد أن تؤدي الارتفاعات الأخيرة في الأسعار إلى ضخ مزيد من الأموال في هذا الاتجاه، ناهيك عن أن ضغوط المناخ على صناعة النفط قد تدفع إلى تحول هذه الاستثمارات إلى موارد أخرى غير النفط، بزيادة الإنفاق على الطاقة الشمسية والرياح والوقود الحيوي، كما أن هذا الارتفاع في الأسعار طبقًا للسيرة التاريخية لهذه السلعة ليس مؤكدًا، وهناك مخاوف من العودة ثانية للانخفاض، وكان التراجع في الاستثمارات النفطية كبيرًا في 2020، حيث اضطرت شركات طاقة حكومية عديدة إلى تقليص نفقاتها وتأجيل كثير من مشاريعها الاستثمارية. من جهته، قال وزير الطاقة السعودي، إن المملكة ستحدث أنماطًا جديدة لاستثمارات النفط والغاز، وتحقيق إحلال الطاقة الشمسية محل سوائل البترول. وتوقعت الشركة العربية للاستثمارات البترولية أن تصل إجمالي استثمارات الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال السنوات (2020 – 2024)، إلى أكثر من 792 مليار دولار في مقابل توقعها السابق 965 مليار دولار بانخفاض قدره 173 مليار دولار، فإذا ما صدقت هذه التوقعات، فإن التحدي الذي من شأنه رفع أسعار النفط الخام، هو عدم قدرة الإنتاج المتناقص على ملاحقة الطلب المتزايد. على العموم، يتوقع أغلب المراقبين استمرار الارتفاع، ومواجهة العالم لصدمة وشيكة، نتيجة تقلص الإمدادات مع تراجع استثمارات شركات الطاقة العالمية في مشروعات إنتاج الوقود الأحفوري، وتزايد الاتجاه نحو الطاقة النظيفة، بينما في نفس الوقت، فإن الطلب العالمي على النفط لم يصل بعد لذروته، خاصة أن الأرقام تشير إلى تراجع استثمارات شركات النفط العالمية في مشروعات التنقيب والاستخراج إلى نحو 300 مليار دولار في 2020، أي أقل من نصف إنفاقها السنوي قبل كورونا، والذي كان 650 مليار دولار، فيما تواجه هذه الشركات ضغوطًا من جانب المساهمين والحكومات لزيادة استثماراتها على مستقبل أقل اعتمادًا على الوقود الأحفوري فإذا كان العالم يحتاج إلى نحو 90 مليون برميل يوميًا، كيف يمكن إيجاد الاستثمارات المطلوبة حتى تنتج هذه الكمية، خاصة وأن صناعة النفط في وضعها الحالي تعاني من عدم كفاية الإنفاق الرأسمالي، ومن النقص الهيكلي في الاستثمارات منذ الأزمة الاقتصادية 2008، ومن العوامل السلبية أيضًا على اتجاه الاستثمار أن الارتفاع الأخير في أسعار النفط كان للمبيعات الفورية، وليس العقود الآجلة، التي مازالت أسعارها منخفضة غير مشجعة على الاستثمار في المشروعات طويلة الأجل العملاقة، التي تحتاج مبالغ كبيرة لا تؤتي أكلها إلا على المدى البعيد.
مشاركة :